مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ قَدَّرۡنَآ إِنَّهَا لَمِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ} (60)

أما قوله تعالى : { إلا امرأته } قال صاحب «الكشاف » : هذا استثناء من الضمير المجرور في قوله : { لمنجوهم } وليس ذلك من باب الاستثناء من الاستثناء ، لأن الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه ، كما لو قيل : أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأته ، وكما لو قال : المطلق لامرأته أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة ، وكما إذا قال : المقر لفلان على عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهما ، فأما في هذه الآية فقد اختلف الحكمان ، لأن قوله : { إلا آل لوط } متعلق بقوله : { أرسلنا } بقوله { مجرمين } وقوله : { إلا امرأته } قد تعلق بقوله : { منجوهم } فكيف يكون هذا استثناء من استثناء ؟

وأما قوله : { قدرنا إنها لمن الغابرين } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أن معنى التقدير في اللغة : جعل الشيء على مقدار غيره . يقال : قدر هذا الشيء بهذا أي اجعله على مقداره ، وقدر الله تعالى الأقوات أي جعلها على مقدار الكفاية ، ثم يفسر التقدير بالقضاء ، فقال : قضى الله عليه كذا ، وقدره عليه أي جعله على مقدار ما يكفي في الخير والشر ، وقيل في معنى : { قدرنا } كتبنا . قال الزجاج : دبرنا . وقيل : قضينا ، والكل متقارب .

المسألة الثانية : قرأ أبو بكر عن عاصم { قدرنا } بتخفيف الدال ههنا وفي النمل . وقرى الباقون فيهما بالتشديد . قال الواحدي يقال : قدرت الشيء وقدرته ، ومنه قراءة ابن كثير : { نحن قدرنا بينكم الموت } خفيفا ، وقراءة الكسائي : { والذي قدر فهدى } ثم قال : والمشددة في هذا المعنى أكثر استعمالا لقوله تعالى ؛ { وقدر فيها أقواتها } وقوله : { وخلق كل شيء فقدره تقديرا } .

المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : لم أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله تعالى ، ولم لم يقولوا : قدر الله تعالى ؟

والجواب : إنما ذكروا هذه العبارة لما لهم من القرب والاختصاص بالله تعالى كما يقول خاصة الملك دبرنا كذا وأمرنا بكذا والمدبر والآمر هو الملك لا هم ، وإنما يريدون بذكر هذا الكلام إظهار ما لهم من الاختصاص بذلك الملك ، فكذا ههنا والله أعلم .

المسألة الرابعة : قوله { إنها لمن الغابرين } في موضع مفعول التقدير قضينا أنها تتخلف وتبقى مع من يبقى حتى تهلك كما يهلكون . ولا تكون ممن يبقى مع لوط فتصل إلى النجاة والله أعلم .