اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ قَدَّرۡنَآ إِنَّهَا لَمِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ} (60)

قوله : { امرأته } فيه وجهان :

أحدهما : أنه استثناء من " ل لُوطٍ " . قال أبو البقاء -رحمه الله- : " والاستثناء إذا جاء عبد الاستثناء كان الاستثناء الثاني مضافاً إلى المبتدأ كقولك : " لهُ عِندِي عشرةٌ إلا أربعة إلا درهماً " فإن الدرهم يستثنى من الأربعة ، فهو مضاف إلى العشرة ، فكأنك قلت : أحد عشرة إلاَّ أربعة ، أو عشرة إلاَّ ثلاثة " .

والثاني : أنها مستثناةٌ من الضمير المجرور في قوله " لمُنَجوهمْ " .

وقد منع الزمخشري -رحمه الله- الوجه الأول ، وعيَّن الثاني فقال : " فإن قلت : قوله : " إلا امرأتهُ " مِمَّ استثني ؟ وهل هو استثناء من استثناء ؟ .

قلت : مستثنى من الضمير المجرور في قوله : " لمُنَجُّوهم " ، وليس من الاستثناء في شيء ؛ لأن الاستثناء من الاستثناء إنَّما يكون فيما اتَّحد الحكم فيه ، وأن يقال : أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأتهُ ، كما اتَّحد في قول المطلِّق : أنت طالقٌ ثلاثاً إلا اثنين إلا واحدة ، وقول المقرّ : لفلان علي عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهماً ، وأما الآية فقد اختلف الحكمان ؛ لأنّ : " آل لوطٍ " متعلق ب " أرْسَلْنَا " أو ب : " مُجرمِينَ " ، و " إلاَّ امْرأتهُ " قد تعلَّق بقوله : " لمُنجوهم " فأنَّى يكون استثناء من استثناء " .

قال أبو حيَّان{[4]} : ولما استسلف الزمخشري أنَّ " امرأتهُ " استثناء من الضمير في " لمُنجُّوهم " أبى أن يكون استثناء من استثناء ، ومن قال : إنه استثناء من استثناء ، فيمكن [ تصحيح قوله ]{[5]} بأحد وجهين :

أحدهما : أنه لما كان امرأته مستثنى من الضمير في " لمُنَجوهُم " ، وهو عائدٌ على " آل لوطٍ " صار كأنَّه مستثنى من : " آل لوطٍ " ؛ لأنَّ المضمر هو الظاهر .

والوجه الآخر : أن قوله " إلاَّ آل لوطٍ " لمَّا حكم عليهم بغير الحكم الذي حكم به على قوم مجرمين ، اقتضى ذلك نجاتهم فجاء قوله : { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } تأكيداً لمعنى الاستثناء ، إذ المعنى : إلا آل لوط لم نرسل إليهم بالعذاب ، ونجاتهم مرتبة على [ عدم ]{[6]} الإرسال إليهم بالعذاب ، فصار نظير ذلك : قام القومُ إلاَّ زيداً لم يقم أو إلاَّ زيداً فإنه لم يقم ، فهذه الجملة تأكيدٌ لما تضمَّنهُ الاستثناء من الحكم على ما بعد إلاَّ بضدِّ الحكم السَّابق على المستثنى منه ، ف : " إلاَّ امْرَأتهُ " على هذا التقدير الذي قرَّرناه مستثنى من : " آلَ لُوطٍ " ؛ لأنَّ الاستثناء ممَّا جيء به للتَّأسيس أولى من الاستثناء ممَّا جيء به للتأكيد .

قوله " قدَّرْنَا " قرأ أبو بكر{[7]} ههنا ، وفي سورة النمل بتخفيف الدَّال ، والباقون بتشديدها ، وهما لغتان : قَدَّر ، وقَدَر .

قوله : " إنَّها " كسرت من أجل اللاّم في خبرها ، ولولا [ لَفُتِحَتْ ]{[8]} ، وهي معلقة لما قبلها ؛ لأنَّ فعل التقدير قد يعلق إجراء له مجرى العلم إمَّا لكونه بمعناه ، وإمَّا لأنه مترتب عليه .

قال الزمخشري{[9]} : " فإن قلت : لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله : { قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين } ، والتعليق من خصائص أفعال القلوب ؟ قلت : لتضمن فعل التقدير معنى العلم " .

قال أبو حيَّان{[10]} -رحمه الله تعالى- " وكسرت " إِنَّها " إجراء لفعل التقدير مجرى العلم " .

وهذا لا يصحُّ علة لكسرها ، إنَّما يصحُّ علةً لتعليقها الفعل قبلها .

فصل

معنى التقدير في اللغة : جعل الشيء على مقدار غيره ، يقال : قدر هذا الشيء بهذا ، أي : اجعله على مقداره ، وقدَّر الله –سبحانه- الأقوات ، أي : جعلها على مقدار الكفاية ، ثمَّ يفسر التقدير بالقضاء فيقال : قضى الله عليه ، وقَدرَ عليه ، أي : جعله على مقدار ما يكفي في الخير ، والشر . وقيل : معنى : " قَدَّرْنَا " كتبنا . وقال الزجاج : دبرنا . فإن [ قيل ]{[11]} لم أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله عزَّ وجلَّ ؟

فالجواب : إنَّما ذكروا هذه العبارة لما لهم من القرب والاختصاص بالله ، كما يقول خاصة الملك : دبرنا كذا [ وأمرنا بكذا ]{[12]} ، والمدبر ، والآمر هو الملك لا هم ، وإنَّما يريدون بهذا الكلام إظهار ما لهم من الاختصاص بذلك الملك ، فكذا هنا .

قوله تعالى : { إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين } في موضع مفعول ، التقدير : قضينا أنها تتخلف ، وتبقى مع من يبقى حتَّى يهلك ، فتلحق بالهالكين .


[4]:أخرجه البخاري (4/301)، كتاب: فضل ليلة القدر، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (2015)، ومسلم (2/822)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها... رقم (205- 1165).
[5]:تقدم.
[6]:سقط من: ب.
[7]:تقدم.
[8]:ينظر: تفسير القرطبي (20/93).
[9]:سقط من: ب.
[10]:الجامع لأحكام القرآن 20/91.
[11]:سقط في ب.
[12]:سقط في ب.