مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} (272)

قوله تعالى { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لاتظلمون }

هذا هو الحكم الرابع من أحكام الإنفاق ، وهو بيان أن الذي يجوز الإنفاق عليه من هو ثم في الآية مسائل :

المسألة الأولى : في بيان سبب النزول وجوه أحدها : أن هذه الآية نزلت حين جاءت نتيلة أم أسماء بنت أبي بكر إليها تسألها ، وكذلك جدتها وهما مشركتان ، أتيا أسماء يسألانها شيئا فقالت لا أعطيكما حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنكما لستما على ديني ، فاستأمرته في ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتصدق عليهما .

والرواية الثانية : كان أناس من الأنصار لهم قرابة من قريظة والنضير وكانوا لا يتصدقون عليهم ، ويقولون ما لم تسلموا لا نعطيكم شيئا فنزلت هذه الآية .

والرواية الثالثة : أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتصدق على المشركين ، حتى نزلت هذه الآية فتصدق علهيم والمعنى على جميع الروايات : ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام ، فتصدق عليهم لوجه الله ، ولا توقف ذلك على إسلامهم ، ونظيره قوله تعالى : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم } [ الممتحنة : 8 ] فرخص في صلة هذا الضرب من المشركين .

المسألة الثانية : أنه صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص على إيمانهم كما قال تعالى : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا } [ الكهف : 6 ] { لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين } [ الشعراء : 3 ] وقال : { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } [ يونس : 99 ] وقال : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم } [ التوبة : 128 ] فأعلمه الله تعالى أنه بعثه بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ومبينا للدلائل ، فأما كونهم مهتدين فليس ذلك منك ولا بك ، فالهدى ههنا بمعنى الاهتداء ، فسواء اهتدوا أو لم يهتدوا فلا تقطع معونتك وبرك وصدقتك عنهم ، وفيه وجه آخر : ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء بواسطة أن توقف صدقتك عنهم على إيمانهم ، فإن مثل هذا الإيمان لا ينتفعون به ، بل الإيمان المطلوب منهم الإيمان على سبيل التطوع والاختيار .

المسألة الثالثة : ظاهر قوله { ليس عليك هداهم } خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم ولكن المراد به هو وأمته ، ألا تراه قال : { إن تبدوا الصدقات } [ البقرة : 271 ] وهذا خطاب عام ، ثم قال : { ليس عليك هداهم } وهو في الظاهر خاص ، ثم قال بعده { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم } وهذا عام فيفهم من عموم ما قبل الآية وعموم ما بعدها عمومها أيضا .

أما قوله تعالى : { ولكن الله يهدى من يشاء } فقد احتج به الأصحاب على أن هداية الله تعالى غير عامة ، بل هي مخصوصة بالمؤمنين قالوا : لأن قوله { ولكن الله يهدى من يشاء } إثبات للهداية التي نفاها بقوله { ليس عليك هداهم } لكن المنفي بقوله { ليس عليك هداهم } هو حصول الاهتداء على سبيل الاختيار ، فكان قوله { ولكن الله يهدى من يشاء } عبارة عن حصول الاهتداء على سبيل الاختيار وهذا يقتضي أن يكون الاهتداء الحاصل بالاختيار واقعا بتقدير الله تعالى وتخليقه وتكوينه وذلك هو المطلوب .

قالت المعتزلة { ولكن الله يهدى من يشاء } يحتمل وجوها أحدها : أنه يهدي بالإثابة والمجازاة من يشاء ممن استحق ذلك وثانيها : يهدي بالألطاف وزيادات الهدى من يشاء وثالثها : ولكن الله يهدي بالإكراه من يشاء على معنى أنه قادر على ذلك وإن لم يفعله ورابعها : أنه يهدي بالاسم والحكم من يشاء ، فمن اهتدى استحق أن يمدح بذلك .

أجاب الأصحاب عن هذه الوجوه بأسرها أن المثبت في قوله { ولكن الله يهدى من يشاء } هو المنفي أولا بقوله { ليس عليك هداهم } لكن المراد بذلك المنفي بقوله أولا : { ليس عليك هداهم } هو الاهتداء على سبيل الاختيار ، فالمثبت بقوله { ولكن الله يهدى من يشاء } يجب أن يكون هو الاهتداء على سبيل الاختيار ، وعلى هذا التقدير يسقط كل الوجوه .

ثم قال : { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم } فالمعنى : وكل نفقة تنفقونها من نفقات الخير فإنما هو لأنفسكم أي ليحصل لأنفسكم ثوابه فليس يضركم كفرهم .

ثم قال تعالى : { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في هذه الآية وجوه الأول أن يكون المعنى : ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين تقصدون إلا وجه الله ، فقد علم الله هذا من قلوبكم ، فانفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبتغون بذلك وجه الله في صلة رحم وسد خلة مضطر : وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم الثاني : أن هذا وإن كان ظاهره خبرا إلا أن معناه نهي ، أي ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله ، وورد الخبر بمعنى الأمر والنهي كثيرا قال تعالى : { الوالدات يرضعن أولادهن } [ البقرة : 233 ] { والمطلقات يتربصن } [ البقرة : 228 ] الثالث : أن قوله { وما تنفقون } أي ولا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم الذي يفيد المدح حتى تبتغوا بذلك وجه الله .

المسألة الثانية : ذكر في الوجه في قوله { إلا ابتغاء وجه الله } قولان أحدهما : أنك إذا قلت : فعلته لوجه زيد فهو أشرف في الذكر من قولك : فعلته له لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ، ثم كثر حتى صار يعبر عن الشرف بهذا اللفظ والثاني : أنك إذا قلت : فعلت هذا الفعل له فههنا يحتمل أن يقال : فعلته له ولغيره أيضا ، أما إذا قلت فعلت هذا الفعل لوجهه ، فهذا يدل على أنك فعلت الفعل له فقط وليس لغيره فيه شركة .

المسألة الثالثة : أجمعوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير المسلم ، فتكون هذه الآية مختصة بصدقة التطوع ، وجوز أبو حنيفة رضي الله عنه صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة ، وأباه غيره ، وعن بعض العلماء : لو كان شر خلق الله لكان لك ثواب نفقتك .

ثم قال تعالى : { وما تنفقوا من خير يوف إليكم } أي يوف إليكم جزاؤه في الآخرة ، وإنما حسن قوله { إليكم } مع التوفية لأنها تضمنت معنى التأدية .

ثم قال : { وأنتم لا تظلمون } أي لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا لقوله تعالى : { أتت أكلها ولم تظلم منه شيئا } [ الكهف : 33 ] يريد لم تنقص .