مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثۡبِيتٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ كَمَثَلِ جَنَّةِۭ بِرَبۡوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٞ فَـَٔاتَتۡ أُكُلَهَا ضِعۡفَيۡنِ فَإِن لَّمۡ يُصِبۡهَا وَابِلٞ فَطَلّٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} (265)

ثم قال تعالى : { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فأتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير } .

اعلم أن الله تعالى لما ذكر مثل المنفق الذي يكون مانا ومؤذيا ذكر مثل المنفق الذي لا يكون كذلك ، وهو هذه الآية ، وبين تعالى أن غرض هؤلاء المنفقين من هذا الإنفاق أمران أحدهما : طلب مرضاة الله تعالى ، والابتغاء افتعال من بغيت أي طلبت ، وسواء قولك : بغيت وابتغيت .

والغرض الثاني : هو تثبيت النفس ، وفيه وجوه أحدها : أنهم يوطنون أنفسهم على حفظ هذه الطاعة وترك ما يفسدها ، ومن جملة ذلك ترك إتباعها بالمن والأذى ، وهذا قول القاضي وثانيها : وتثبيتا من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة في الإيمان مخلصة فيه ، ويعضده قراءة مجاهد { وتثبيتا من بعض أنفسهم } وثالثها : أن النفس لا ثبات لها في موقف العبودية ، إلا إذا صارت مقهورة بالمجاهدة ، ومعشوقها أمران : الحياة العاجلة والمال ، فإذا كلفت بإنفاق المال فقد صارت مقهورة من بعض الوجوه ، وإذا كلفت ببذل الروح فقد صارت مقهورة من بعض الوجوه فلا جرم حصل بعض التثبيت ، فلهذا دخل فيه { من } التي هي التبعيض ، والمعنى أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ، ومن بذل ماله وروحه معا فهو الذي ثبتها كلها ، وهو المراد من قوله { وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم } [ الصف : 11 ] وهذا الوجه ذكره صاحب «الكشاف » ، وهو كلام حسن وتفسير لطيف ورابعها : وهو الذي خطر ببالي وقت كتابة هذا الموضع : أن ثبات القلب لا يحصل إلا بذكر الله على ما قال : { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } [ الرعد : 28 ] فمن أنفق ماله في سبيل الله لم يحصل له اطمئنان القلب في مقام التجلي ، إلا إذا كان إنفاقه لمحض غرض العبودية ، ولهذا السبب حكي عن علي رضي الله عنه أنه قال في إنفاقه { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا } [ الإنسان : 9 ] ووصف إنفاق أبي بكر فقال : { وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ، ولسوف يرضى } [ الليل : 19 ، 20 ، 21 ] فإذا كان إنفاق العبد لأجل عبودية الحق لا لأجل غرض النفس وطلب الحض . فهناك اطمأن قلبه ، واستقرت نفسه ، ولم يحصل لنفسه منازعه مع قلبه ، ولهذا قال أولا في هذا الإنفاق إنه لطلب مرضاة الله ، ثم أتبع ذلك بقوله { وتثبيتا من أنفسهم } وخامسها : أنه ثبت في العلوم العقلية ، أن تكرير الأفعال سبب لحصول الملكات .

إذا عرفت هذا فنقول : إن من يواظب على الإنفاق مرة بعد أخرى لابتغاء مرضاة الله حصل له من تلك المواظبة أمران أحدهما : حصول هذا المعنى والثاني : صيرورة هذا الابتغاء والطلب ملكة مستقرة في النفس ، حتى يصير القلب بحيث لو صدر عنه فعل على سبيل الغفلة والاتفاق رجع القلب في الحال إلى جناب القدس ، وذلك بسبب أن تلك العبادة صارت كالعادة والخلق للروح ، فإتيان العبد بالطاعة لله ، ولابتغاء مرضاة الله ، يفيد هذه الملكة المستقرة ، التي وقع التعبير عنها في القرآن بتثبيت النفس ، وهو المراد أيضا بقوله { يثبت الله الذين آمنوا } وعند حصول هذا التثبيت تصير الروح في هذا العالم من جوهر الملائكة الروحانية والجواهر القدسية ، فصار العبد كما قاله بعض المحققين : غائبا حاضرا ، ظاعنا مقيما وسادسها : قال الزجاج : المراد من التثبيت أنهم ينفقونها جازمين بأن الله تعالى لا يضيع عملهم ، ولا يخيب رجاءهم ، لأنها مقرونة بالثواب والعقاب والنشور بخلاف المنافق ، فإنه إذا أنفق عد ذلك الإنفاق ضائعا ، لأنه لا يؤمن بالثواب ، فهذا الجزم هو المراد بالتثبيت وسابعها : قال الحسن ومجاهد وعطاء : المراد أن المنفق يتثبت في إعطاء الصدقة فيضعها في أهل الصلاح والعفاف ، قال الحسن : كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت ، فإذا كان لله أعطى ، وإن خالطه أمسك ، قال الواحدي : وإنما جاز أن يكون التثبيت ، بمعنى التثبيت ، لأنهم ثبتوا أنفسهم في طلب المستحق ، وصرف المال في وجهه ، ثم إنه تعالى بعد أن شرح أن غرضهم من الإنفاق هذان الأمران ضرب لإنفاقهم مثلا ، فقال : { كمثل جنة بربوة أصابها وابل } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ عاصم وابن عامر { بربوة } بفتح الراء وفي المؤمنين { إلى ربوة } وهو لغة تميم ، والباقون بضم الراء فيهما ، وهو أن أشهر اللغات ولغة قريش ، وفيه سبع لغات { ربوة } بتعاقب الحركات الثلاث على الراء ، و ( رباوة ) بالألف بتعاقب الحركات الثلاث على الراء ، و ( ربو ) والربوة المكان المرتفع ، قال الأخفش : والذي اختاره { ربوة } بالضم ، لأن جمعها الربى ، وأصلها من قولهم : ربا الشيء يربو إذا ازداد وارتفع ، ومنه الرابية ، لأن أجزاءها ارتفعت ، ومنه الربو إذا أصابه نفس في جوفه زائد ، ومنه الربا ، لأنه يأخذ الزيادة .

واعلم أن المفسرين قالوا : البستان إذا كان في ربوة من الأرض كان أحسن وأكثر ريعا .

ولي فيه إشكال : وهو أن البستان إذا كان في مرتفع من الأرض كان فوق الماء ولا ترتفع إليه أنهار وتضربه الرياح كثيرا فلا يحسن ريعه ، وإذا كان في وهدة من الأرض انصبت مياه الأنهار ، ولا يصل إليه إثارة الرياح فلا يحسن أيضا ريعه ، فإذن البستان إنما يحسن ريعه إذا كان على الأرض المستوية التي لا تكون ربوة ولا وهدة ، فإذن ليس المراد من هذه الربوة ما ذكروه ، بل المراد منه كون الأرض طينا حرا ، بحيث إذا نزل المطر عليه انتفخ وربا ونما ، فإن الأرض متى كانت على هذه الصفة يكثر ريعها ، وتكمل الأشجار فيها ، وهذا التأويل الذي ذكرته متأكد بدليلين أحدهما : قوله تعالى : { وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } [ الحج : 5 ] والمراد من ربوها ما ذكرنا فكذا ههنا والثاني : أنه تعالى ذكر هذا المثل في مقابلة المثل الأول ، ثم كان المثل الأول هو الصفوان الذي لا يؤثر فيه المطر ، ولا يربو ، ولا ينمو بسبب نزول المطر عليه ، فكان المراد بالربوة في هذا المثل كون الأرض بحيث تربو وتنمو ، فهذا ما خطر ببالي والله أعلم بمراده .

ثم قال تعالى : { أصابها وابل فأتت أكلها ضعفين } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو { أكلها } بالتخفيف ، والباقون بالتثقيل ، وهو الأصل ، والأكل بالضم الطعام لأن من شأنه أن يؤكل قال الله تعالى : { تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها } [ إبراهيم : 25 ] أي ثمرتها وما يؤكل منها ، فالأكل في المعنى مثل الطعمة ، وأنشد الأخفش :

فما أكلة إن نلتها بغنيمة *** ولا جوعة إن جعتها بقرام

وقال أبو زيد : يقال إنه لذو أكل إذا كان له حظ من الدنيا .

المسألة الثانية : قال الزجاج : { آتت أكلها ضعفين } يعني مثلين لأن ضعف الشيء مثله زائدا عليه ، وقيل ضعف الشيء مثلاه قال عطاء : حملت في سنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين ، وقال الأصم : ضعف ما يكون في غيرها ، وقال أبو مسلم : مثلي ما كان يعهد منها .

ثم قال تعالى : { فإن لم يصبها وابل فطل } الطل : مطر صغير الفطر ، ثم في المعنى وجوه :

الأول : المعنى أن هذه الجنة إن لم يصبها وابل فيصيبها مطر دون الوابل ، إلا أن ثمرتها باقية بحالها على التقديرين لا ينقص بسبب انتقاص المطر وذلك بسبب كرم المنبت الثاني : معنى الآية إن لم يصبها وابل حتى تضاعف ثمرتها فلا بد وأن يصيبها طل يعطي ثمرا دون ثمر الوابل ، فهي على جميع الأحوال لا تخلوا من أن تثمر ، فكذلك من أخرج صدقة لوجه الله تعالى لا يضيع كسبه قليلا كان أو كثيرا .

ثم قال : { والله بما تعملون بصير } والمراد من البصير العليم ، أي هو تعالى عالم بكمية النفقات وكيفيتها ، والأمور الباعثة عليها ، وأنه تعالى مجاز بها إن خيرا فخير وإن شرا فشر .