مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالَ رَبِّ ٱشۡرَحۡ لِي صَدۡرِي} (25)

قوله تعالى :{ قال رب اشرح لي صدري ، ويسر لي أمري ، واحلل عقدة من لساني ، يفقهوا قولي ، واجعل لي وزيرا من أهلي ، هارون أخي ، اشدد به أزري ، وأشركه في أمري ، كي نسبحك كثيرا ، ونذكرك كثيرا ، إنك كنت بنا بصيرا }

اعلم أن الله تعالى لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون وكان ذلك تكليفا شاقا فلا جرم سأل ربه أمورا ثمانية ، ثم ختمها بما يجري مجرى العلة لسؤال تلك الأشياء .

المطلوب الأول : قوله : { رب اشرح لي صدري } واعلم أنه يقال شرحت الكلام أي بينته وشرحت صدره أي وسعته والأول يقرب منه لأن شرح الكلام لا يحصل إلا ببسطة . والسبب في هذا السؤال ما حكى الله تعالى عنه في موضع آخر وهو قوله : { ويضيق صدري ولا ينطلق لساني } فسأل الله تعالى أن يبدل ذلك الضيق بالسعة ، وقال : { رب اشرح لي صدري } فأفهم عنك ما أنزلت علي من الوحي ، وقيل : شجعني لأجترئ به على مخاطبة فرعون ثم الكلام فيه يتعلق بأمور . أحدها : فائدة الدعاء وشرائطه . وثانيها : ما السبب في أن الإنسان لا يذكر وقت الدعاء من أسماء الله تعالى إلا الرب . وثالثها : ما معنى شرح الصدر . ورابعها : بماذا يكون شرح الصدر . وخامسها : كيف كان شرح الصدر في حق موسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم . وسادسها : صفة صدر موسى عليه السلام هل كان منشرحا أو لم يكن منشرحا ، فإن كان منشرحا كان طلب شرح الصدر تحصيلا للحاصل وهو محال ، وإن لم يكن منشرحا فهو باطل من وجهين . الأول : أنه سبحانه بين له فيما تقدم كل ما يتعلق بالأديان من معرفة الربوبية والعبودية وأحوال المعاد وكل ما يتعلق بشرح الصدر في باب الدين فقد حصل ، ثم إنه سبحانه تلطف له بقوله : { وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى } ثم كلمه على سبيل الملاطفة بقوله : { وما تلك بيمينك يا موسى } ثم أظهر له المعجزات العظيمة والكرامات الجسيمة ، ثم أعطاه منصب الرسالة بعد أن كان فقيرا وكل ما يتعلق به الإعزاز والإكرام فقد حصل ، ولو أن ذرة من هذه المناصب حصلت لأدون الناس لصار منشرح الصدر فبعد حصولها لكليم الله تعالى يستحيل أن لا يصير منشرح الصدر . والثاني : أنه لما لم يصر منشرح الصدر بعد هذه الأشياء لم يجز من الله تعالى تفويض النبوة إليه فإن من كان ضيق القلب مشوش الخاطر لا يصلح للقضاء على ما قال عليه السلام : « لا يقضي القاضي وهو غضبان » فكيف يصلح للنبوة التي أقل مراتبها القضاء ؟ فهذا مجموع الأمور التي لا بد من البحث عنها في هذه الآية .

أما البحث الأول : وهو فائدة الدعاء وشرائطه فقد تقدم في تفسير قوله : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } إلا أنه نذكر منها ههنا بعض الفوائد المتعلقة بهذا الموضع فنقول : اعلم أن للكمال مراتب ودرجات وأعلاها أن يكون كاملا في ذاته مكملا لغيره ، أما كونه كاملا في ذاته فكل ما كان كذلك كان كماله من لوازم ذاته ، وكل ما كان كذلك كان كاملا في الأزل ولكنه يستحيل أن يكون مكملا في الأزل لأن التكميل عبارة عن جعل الشيء كاملا وذلك لا يتحقق إلا عند عدم الكمال ، فإنه لو كان حاصلا في الأزل لاستحال التأثير فيه ، فإن تحصيل الحاصل محال وتكوين الكائن ممتنع فلا جرم أنه سبحانه ، وإن كان كاملا في الأزل إلا أنه يصير مكملا فيما لا يزال ، فإن قيل : إذا كان التكميل من صفات الكمال فحيث لم يكن مكملا في الأزل فقد كان عاريا عن صفات الكمال فيكون ناقصا وهو محال ، قلنا : النقصان إنما يلزم لو كان ذلك ممكنا في الأزل لكنا بينا أن الفعل الأزلي محال فالتكميل الأزلي محال فعدمه لا يكون نقصانا ، كما أن قولنا : إنه لا يقدر على تكوين مثل نفسه لا يكون نقصانا لأنه غير ممكن الوجود في نفسه ، وكقولنا : إنه لا يعلم عددا مفصلا كحركات أهل الجنة لأن كل ما له عدد مفصل فهو متناه ، وحركات أهل الجنة غير متناهية فلا يكون له عدد مفصل ، فامتنع ذلك لا لقصور في العلم ، بل لكونه في نفسه ممتنع الحصول .

إذا ثبت هذا فنقول : إنه سبحانه وتعالى لما قصد إلى التكوين وكان الغرض منه تكميل الناقصين لأن الممكنات قابلة للوجود وصفة الوجود صفة كمال فاقتضت قدرة الله تعالى على التكميل وضع مائدة الكمال للممكنات فأجلس على المائدة بعض المعدومات دون البعض لأسباب . أحدها : أن المعدومات غير متناهية فلو أجلس الكل على مائدة الوجود لدخل ما لا نهاية له في الوجود . وثانيها : أنه لو أوجد الكل لما بقي بعد ذلك قادرا على الإيجاد لأن إيجاد الموجود محال ، فكان ذلك وإن كان كمالا للناقص لكنه يقتضي نقصان الكامل فإنه ينقلب القادر من القدرة إلى العجز . وثالثها : أنه لو دخل الكل في الوجود لما بقي فيه تمييز فلا يتميز القادر على الموجب والقدرة كمال والإيجاب بالطبع نقصان ، فلهذه الأسباب أخرج بعض الممكنات إلى الوجود فإن قيل عليه سؤالان : أحدهما : أن الموجودات متناهية والمعدومات غير متناهية ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي ، فتكون أيضا الضيافة ضيافة للأقل ، وأما الحرمان فإنه عدد لما لا نهاية له ، وهذا لا يكون وجودا . الثاني : أن البعض الذي خصه بهذه الضيافة إن كان لاستحقاق حصل فيه دون غيره فذلك الاستحقاق ممن حصل ؟ وإن كان لا لهذا الاستحقاق كان ذلك عبثا وهو محال كما قيل :

يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما*** . . .

وإنه لا يليق بأكرم الأكرمين . والجواب عن الكل أن هذه الشبهات إنما تدور في العقول والخيالات لأن الإنسان يحاول قياس فعله على فعلنا ، وذلك باطل لأنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .

إذا عرفت هذا فهذا الوجود الفائض من نور رحمته على جميع الممكنات هو الضيافة العامة والمائدة الشاملة وهو المراد من قوله : { ورحمتي وسعت كل شيء } ثم إن الموجودات انقسمت إلى الجمادات وإلى الحيوانات ، ولا شك أن الجماد بالنسبة إلى الحيوان كالعدم بالنسبة إلى الوجود لأن الجماد لا خبر عنده من وجوده فوجوده بالنسبة إليه كالعدم وعدمه كالوجود ، وأما الحيوان فهو الذي يميز بين الموجود والمعدوم ويتفاوتان بالنسبة إليه ولأن الجماد بالنسبة إلى الحيوان آلة لأن الحيوانات تستعمل الجمادات في أغراض أنفسها ومصالحها وهي كالعبد المطيع المسخر والحيوان كالمالك المستولي ، فكانت الحيوانية أفضل من الجمادية فكما أن إحسان الله ورحمته اقتضيا وضع مائدة الوجود لبعض المعدومات دون البعض كذلك اقتضيا وضع مائدة الحياة لبعض الموجودات دون البعض ، فلا جرم جعل بعض الموجودات أحياء دون البعض . والحياة بالنسبة إلى الجمادية كالنور بالنسبة إلى الظلمة والبصر بالنسبة إلى العمى والوجود بالنسبة إلى العدم ، فعند ذلك صار بعض الموجودات حيا مدركا للمنافي والملائم واللذة والألم والخير والشر ، فمن ثم قالت الأحياء عند ذلك : يا رب الأرباب إنا وإن وجدنا خلعة الوجود وخلعة الحياة وشرفتنا بذلك ، لكن ازدادت الحاجة لأنا حال العدم وحال الجمادية ما كنا نحتاج إلى الملائم والموافق وما كنا نخاف المنافي والمؤذي ، ولما حصل الوجود والحياة احتجنا إلى طلب الملائم ودفع المنافي فإن لم تكن لنا قدرة على الهرب والطلب والدفع والجذب لبقينا كالزمن المقعد على الطريق عرضة للآفات وهدفا لسهام البليات فأعطنا من خزائن رحمتك القدرة والقوة التي بها نتمكن من الطلب تارة والهرب أخرى ، فاقتضت الرحمة التامة تخصيص بعض الأحياء بالقدرة كما اقتضت تخصيص بعض الموجودات بالحياة وتخصيص بعض المعدومات بالوجود . فقال القادرون عند ذلك : إلهنا الجواد الكريم إن الحياة والقدرة بلا عقل لا تكون إلا لأحد القسمين إما للمجانين المقيدين بالسلاسل والأغلال ، وإما للبهائم المستعملة في حمل الأثقال وكل ذلك من صفات النقصان وأنت قد رقيتنا من حضيض النقصان إلى أوج الكمال فأفض علينا من العقل الذي هو أشرف مخلوقاتك وأعز مبدعاتك الذي شرفته بقولك : «بك أهين وبك أثيب وبك أعاقب » حتى تفوز من خزائن رحمتك بالخلع الكاملة والفضيلة التامة فأعطاهم العقل وبعث في أرواحهم نور البصيرة وجوهر الهداية فعند هذه الدرجة فازوا بالخلع الأربعة ، الوجود والحياة والقدرة والعقل ، فالعقل خاتم الكل والخاتم يجب أن يكون أفضل ألا ترى أن رسولنا صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم النبيين كان أفضل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والإنسان لما كان خاتم المخلوقات الجسمانية كان أفضلها فكذلك العقل لما كان خاتم الخلع الفائضة من حضرة ذي الجلال كان أفضل الخلع وأكملها ، ثم نظر العقل في نفسه فرأى نفسه كالجفنة المملوءة من الجواهر النفيسة بل كأنها سماء مملوءة من الكواكب الزاهرة وهي العلوم الضرورية البديهية المركوزة في بدائه العقول وصرائح الأذهان ، وكما أن الكواكب المركوزة في السماوات علامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، فكذلك الجواهر المركوزة في سماء العقل كواكب زاهرة يهتدي بها السائرون في ظلمات عالم الأجسام إلى أنوار العالم الروحانية وفسحة السماوات وأضوائها .

فلما نظر العقل إلى تلك الكواكب الزاهرة والجواهر الباهرة رأى رقم الحدوث على تلك الجواهر وعلى جميع تلك الخلع فاستدل بتلك الأرقام على راقم ، وبتلك النقوش على ناقش . وعند ذلك عرف أن النقاش بخلاف النقش والباني بخلاف البناء ، فانفتح له من أعلى سماء عالم المحدثات روازن إلى أضواء لوائح عالم القدم وطالع عالم القدم الأزلية والجلال وكان العقل إنما نظر إلى أضواء عالم الأزلية من ظلمات عالم الحدوث والإمكان فغلبته دهشة أنوار الأزلية فعميت عيناه فبقي متحيرا فالتجأ بطبعه إلى مفيض الأنوار ، فقال : { رب اشرح لي صدري } فإن البحار عميقة والظلمات متكاثفة ، وفي الطريق قطاع من الأعداء الداخلة والخارجة وشياطين الإنس والجن كثيرة فإن لم تشرح لي صدري ولم تكن لي عونا في كل الأمور انقطعت ، وصارت هذه الخلع سببا لنيل الآفات لا للفوز بالدرجات . فهذا هو المراد من قوله : { رب اشرح لي صدري } ثم قال : { ويسر لي أمري } وذلك لأن كل ما يصدر من العبد من الأفعال والأقوال والحركات والسكنات فما لم يصر العبد مريدا له استحال أن يصير فاعلا له ، فهذه الإرادة صفة محدثة ولا بد لها من فاعل وفاعلها إن كان هو العبد افتقر في تحصيل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى ، ولزم التسلسل بل لا بد من الانتهاء إلى إرادة يخلقها مدبر العالم فيكون في الحقيقة هو الميسر للأمور وهو المتمم لجميع الأشياء وتمام التحقيق أن حدوث الصفة لا بد له من قابل وفاعل فعبر عن استعداد القابل بقوله : { رب اشرح لي صدري } وعبر عن حصول الفاعل بقوله : { ويسر لي أمري } وفيه التنبيه على أنه سبحانه وتعالى هو الذي يعطي القابل قابليته والفاعل فاعليته ، ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يقولون : يا مبتدئا بالنعم قبل استحقاقها . ومجموع هذين الكلامين كالبرهان القاطع على أن جميع الحوادث في هذا العالم واقعة بقضائه وقدره وحكمته وقدرته . ويمكن أن يقال أيضا : كأن موسى عليه السلام قال : إلهي لا أكتفي بشرح الصدر ولكن أطلب منك تنفيذ الأمر وتحصيل الغرض . فلهذا قال : { ويسر لي أمري } أو يقال : إنه سبحانه وتعالى لما أعطاه الخلع الأربع وهي الوجود والحياة والقدرة والعقل فكأنه قال له يا موسى أعطيتك هذه الخلع الأربع فلا بد في مقابلتها من خدمات أربع لتقابل كل نعمة بخدمة .

فقال موسى عليه السلام : ما تلك الخدمات ؟ فقال : وأقم الصلاة لذكري فإن فيها أنواعا أربعة من الخدمة ، القيام والقراءة والركوع والسجود فإذا أتيت بالصلاة فقد قابلت كل نعمة بخدمة ، ثم إنه تعالى لما أعطاه الخلعة الخامسة وهي خلعة الرسالة قال : { رب اشرح لي صدري } حتى أعرف أني بأي خدمة أقابل هذه النعمة فقيل له بأن تجتهد في أداء هذه الرسالة على الوجه المطلوب فقال موسى : يا رب إن هذا لا يتأتى مني مع عجزي وضعفي وقلة آلاتي وقوة خصمي فاشرح لي صدري ويسر لي أمري . الفصل الثاني : في قوله : { رب اشرح لي صدري } اعلم أن الدعاء سبب القرب من الله تعالى وإنما اشتغل موسى بهذا الدعاء طلبا للقرب فنفتقر إلى بيان أمرين إلى بيان أن الدعاء سبب القرب ثم إلى بيان أن موسى عليه السلام طلب القرب بهذا الدعاء ، أما بيان أن الدعاء سبب القرب فيدل عليه وجوه . الأول : أن الله تعالى ذكر السؤال والجواب في كتابه في عدة مواضع منها أصولية ومنها فروعية ، أما الأصولية فأولها في البقرة : { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } . وثانيها : في بني إسرائيل { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } . وثالثها : { ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا } . ورابعها : { يسألونك عن الساعة أيان مرساها } وأما الفروعية فستة منها في البقرة على التوالي . أحدها : { يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين } وثانيها : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } . وثالثها : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير } . ورابعها : { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } . وخامسها : { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير } . وسادسها : { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى } . وسابعها : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول } . وثامنها : { ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا } . وتاسعها : { ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق } . وعاشرها : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } . والحادية عشر : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } إذا عرفت هذا فنقول جاءت هذه الأسئلة والأجوبة على صور مختلفة ، فالأغلب فيها أنه سبحانه وتعالى لما ذكر السؤال قال لمحمد صلى الله عليه وسلم قل وفي صورة أخرى جاء الجواب بصيغة فقل مع فاء التعقيب وفي صورة ثالثة ذكر السؤال ولم يذكر الجواب ، وهو قوله تعالى : { يسألونك عن الساعة أيان مرساها } وفي صورة رابعة ذكر الجواب ولم يذكر فيه لفظ قل ولا لفظ فقل وهو قوله تعالى : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } ولا بد لهذه الأشياء من الفائدة فنقول : أما الأجوبة الواردة بلفظ قل فلا إشكال فيها لأن قوله تعالى قل كالتوقيع المحدد في ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكالتشريف المحدد في كونه مخاطبا من الله تعالى بأداء الوحي والتبليغ .

وأما الصورة الثانية وهي قوله : { فقل ينسفها ربي نسفا } فالسبب أن قولهم : { ويسألونك عن الجبال } سؤال إما عن قدمها أو عن وجوب بقائها وهذه المسألة من أمهات مسائل أصول الدين فلا جرم أمر الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجيب بلفظ الفاء المفيد للتعقيب كأنه سبحانه قال يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال ولا تقتصر فإن الشك فيه كفر ولا تمهل هذا الأمر لئلا يقعوا في الشك والشبهة ، ثم كيفية الجواب أنه قال : { فقل ينسفها ربي نسفا } ولا شك أن النسف ممكن لأنه ممكن في حق كل جزء من أجزاء الجبل والحس يدل عليه فوجب أن يكون ممكنا في حق كل الجبل وذلك يدل على أنه ليس بقديم ولا واجب الوجود لأن القديم لا يجوز عليه التغير والنسف ، فإن قيل : إنهم قالوا : أخبرنا عن إلهك أهو ذهب أو فضة أو حديد فقال : { قل هو الله أحد } ولم يقل فقل هو الله أحد مع أن هذه المسألة من المهمات قلنا إنه تعالى لم يحك في هذا الموضع سؤالهم وحرف الفاء من الحروف العاطفة فيستدعي سبق كلام فلما لم يوجد ترك الفاء بخلاف ههنا فإنه تعالى حكى سؤالهم فحسن عطف الجواب عليه بحرف الفاء . وأما الصورة الثالثة : فإنه تعالى لم يذكر الجواب في قوله : { يسألونك عن الساعة أيان مرساها } فالحكمة فيه أن معرفة وقت الساعة على التعيين مشتملة على المفاسد التي شرحناها فيما سبق فلهذا لم يذكر الله تعالى ذلك الجواب وذلك يدل على أن من الأسئلة ما لا يجاب عنها . وأما الصورة الرابعة : وهي قوله : { فإني قريب } ولم يذكر في جوابه قل ففيه وجوه . أحدها : أن ذلك يدل على تعظيم حال الدعاء وأنه من أعظم العبادات فكأنه سبحانه قال : يا عبادي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير الدعاء أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك يدل عليه أن كل قصة وقعت لم تكن معرفتها من المهمات . قال لرسوله صلى الله عليه وسلم : اذكر لهم تلك القصة كقوله تعالى : { واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق } { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها } . { واذكر في الكتاب موسى } ، { واذكر في الكتاب إسماعيل } . { واذكر في الكتاب إدريس } . { ونبئهم عن ضيف إبراهيم } ، ثم قال في قصة يوسف : { نحن نقص عليك أحسن القصص } وفي أصحاب الكهف : { نحن نقص عليك نبأهم بالحق } . وما ذاك إلا لما في هاتين القصتين من العجائب والغرائب ، والحاصل كأنه سبحانه وتعالى قال : يا محمد إذا سئلت عن غيري فكن أنت المجيب ، وإذا سئلت عني فاسكت أنت حتى أكون أنا القائل . وثانيها : أن قوله : { وإذا سألك عبادي عني } يدل على أن العبد له [ أن يسأل ] وقوله : { فإني قريب } يدل على أن الرب قريب من العبد . وثالثها : لم يقل فالعبد مني قريب ، بل قال أنا منه قريب ، وهذا فيه سر نفيس فإن العبد ممكن الوجود فهو من حيث هو ، هو في مركز العدم وحضيض الفناء ، فكيف يكون قريبا ، بل القريب هو الحق سبحانه وتعالى فإنه بفضله وإحسانه جعله موجودا وقربه من نفسه فالقرب منه لا من العبد فلهذا قال : { فإني قريب } . ورابعها : أن الداعي ما دام يبقى خاطره مشغولا بغير الله تعالى فإنه لا يكون داعيا لله تعالى فإذا فنى عن الكل وصار مستغرقا بمعرفة الله الأحد الحق امتنع أن يبقى في مقام الفناء عن غير الله مع الالتفات إلى غير الله تعالى فلا جرم رفعت الواسطة من البين فما قال : ( فقل إني قريب ) بل قال : { فإني قريب } فثبت بما تقرر فضل الدعاء وأنه من أعظم القربات ثم من شأن العبد إذا أراد أن يتحف مولاه أن لا يتحفه إلا بأحسن التحف والهدايا فلا جرم أول ما أراد موسى أن يتحف الحضرة الإلهية بتحف الطاعات والعبادات أتحفها بالدعاء فلا جرم قال : { رب اشرح لي صدري } . والوجه الثاني : في بيان فضل الدعاء قوله عليه السلام : « الدعاء مخ العبادة » ثم إن أول شيء أمر الله تعالى به موسى عليه السلام ( العبادة ) لأن قوله : { إنني أنا الله } إخبار وليس بأمر إنما الأمر قوله : { فاعبدني } فلما كان أول ما أورد على موسى من الأوامر هو الأمر بالعبادة لا جرم أول ما أتحف به موسى عليه السلام حضرة الربوبية من تحف العبادة هو تحفة الدعاء فقال : { رب اشرح لي صدري } . والوجه الثالث : وهو أن الدعاء نوع من أنواع العبادة فكما أنه سبحانه وتعالى أمر بالصلاة والصوم فكذلك أمر بالدعاء ويدل عليه قوله تعالى : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب } . { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } . { وادعوه خوفا وطمعا } . { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } { هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين } . { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } . { واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة } وقال صلى الله عليه وسلم : « ادعوا بياذا الجلال والإكرام » فبهذه الآيات عرفنا أن الدعاء عبادة قال بعض الجهال : الدعاء على خلاف العقل من وجوه : أحدها : أنه علام الغيوب يعلم ما في الأنفس وما تخفي الصدور ، فأي حاجة بنا إلى الدعاء . وثانيها : أن المطلوب إن كان معلوم الوقوع فلا حاجة إلى الدعاء وإن كان معلوم اللاوقوع فلا فائدة فيه . وثالثها : الدعاء يشبه الأمر والنهي وذلك من العبد في حق المولى سوء أدب . ورابعها : المطلوب بالدعاء إن كان من المصالح فالحكيم لا يهمله وإن لم يكن من المصالح لم يجز طلبه . وخامسها : فقد جاء أن أعظم مقامات الصديقين الرضا بقضاء الله تعالى . وقد ندب إليه والدعاء ينافي ذلك لأنه اشتغال بالالتماس والطلب . وسادسها : قال عليه السلام رواية عن الله تعالى : « من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين » فدل على أن الأولى ترك الدعاء والآيات التي ذكرتموها تقتضي وجوب الدعاء . وسابعها : أن إبراهيم عليه السلام لما ترك الدعاء واكتفى بقوله : « حسبي من سؤالي علمه بحالي » استحق المدح العظيم فدل على أن الأولى ترك الدعاء . والجواب عن الأول أنه ليس الغرض من الدعاء الإعلام بل هو نوع تضرع كسائر التضرعات . وعن الثاني : أنه يجري مجرى أن نقول للجائع والعطشان إن كان الشبع معلوم الوقوع فلا حاجة إلى الأكل والشرب وإن كان معلوم اللاوقوع فلا فائدة فيه . وعن الثالث : أن الصيغة وإن كانت صيغة الأمر إلا أن صورة التضرع والخشوع تصرفه عن ذلك . وعن الرابع : يجوز أن يصير مصلحة بشرط سبق الدعاء . وعن الخامس : أنه إذا دعا إظهارا للتضرع ثم رضي بما قدره الله تعالى فذاك أعظم المقامات وهو الجواب عن البقية إذا ثبت أنه من العبادات ، ثم إنه تعالى أمره بالعبادة وبالصلاة أمرا ورد مجملا لا جرم شرع في أجل العبادات وهو الدعاء . الوجه الرابع : في فضل الدعاء أنه سبحانه لم يقتصر في بيان فضل الدعاء على الأمر به بل بين في آية أخرى أنه يغضب إذا لم يسأل فقال : { فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون } وقال عليه السلام : « لا يقولون أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت » ولكن يجزم فيقول : اللهم اغفر لي فلهذا السر جزم موسى عليه السلام بالدعاء وقال رب اشرح لي صدري . الوجه الخامس : في فضل الدعاء قوله تعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } وفيه كرامة عظيمة لأمتنا لأن بني إسرائيل فضلهم الله تفضيلا عظيما فقال في حقهم : { وأني فضلتكم على العالمين } وقال أيضا : { وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين } ثم مع هذه الدرجة العظيمة قالوا لموسى عليه السلام : { ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } وأن الحواريين مع جلالتهم في قولهم : { نحن أنصار الله } سألوا عيسى عليه السلام أن يسأل لهم مائدة تنزل من السماء ثم إنه سبحانه وتعالى رفع هذه الواسطة في أمتنا فقال مخاطبا لهم من غير واسطة : { ادعوني أستجب لكم } وقال : { واسألوا الله من فضله } فلهذا السبب لما حصلت هذه الفضيلة لهذه الأمة وكان موسى عليه السلام قد عرفها لا جرم فقال : «اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم » فلا جرم رفع يديه ابتداء فقال : { رب اشرح لي صدري } واعلم أنه تعالى قال : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } ثم إنه تعالى جعل العباد على سبعة أقسام : أحدها : عبد العصمة : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } وموسى عليه السلام كان مخصوصا بمزيد العصمة : { واصطنعتك لنفسي } فلا جرم طلب زوائد العصمة فقال : { رب اشرح لي صدري } . وثانيها : عبد الصفوة : { وسلام على عباده الذين اصطفى } وموسى عليه السلام كان مخصوصا بمزيد الصفوة : { يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } فلا جرم أراد مزيد الصفوة فقال : { رب اشرح لي صدري } . وثالثها : عبد البشارة : { فبشر عبادي * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } وكان موسى عليه السلام مخصوصا بذلك : { وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى } فأراد مزيد البشارة فقال : { رب اشرح لي صدري } . ورابعها : عبد الكرامة : { يا عباد لا خوف عليكم } وموسى عليه السلام كان مخصوصا بذلك : { لا تخافا إنني معكما } فأراد الزيادة عليها فقال : { رب اشرح لي صدري } . وخامسها : عبد المغفرة : { نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم } ، وكان موسى عليه السلام مخصوصا بذلك : { رب اغفر لي } فغفر له فأراد الزيادة فقال : { رب اشرح لي صدري } . وسادسها : عبد الخدمة : { اعبدوا ربكم } وموسى عليه السلام كان مخصوصا بذلك : { واصطنعتك لنفسي } فطلب الزيادة فيها فقال : { اشرح لي صدري } . وسابعها : عبد القربة : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان } وموسى عليه السلام كان مخصوصا بالقرب : { وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا } فأراد كمال القرب فقال : { رب اشرح لي صدري } .

الفصل الثالث : في قوله : { رب اشرح لي صدري } وفيه وجوه : أحدها : أنه تعالى لما خاطبه بالأشياء الستة [ التي ] أحدها : معرفة التوحيد : { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } ، وثانيها : أمره بالعبادة والصلاة :{ فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } وثالثها : معرفة الآخرة : { إن الساعة آتية } ورابعها : حكمة أفعاله في الدنيا : { وما تلك بيمينك يا موسى } ، وخامسها : عرض المعجزات الباهرة عليه : { لنريك من آياتنا الكبرى } ، وسادسها : إرساله إلى أعظم الناس كفرا وعتوا فكانت هذه التكاليف الشاقة سببا للقهر فأراد موسى عليه السلام جبر هذا القهر بالمعجز فعرفه أن كل من سأله قرب منه فقال : { رب اشرح لي صدري } فأراد جبر القهر الحاصل من هذه التكاليف بالقرب منه فقال : { رب اشرح لي صدري } أو يقال خاف شياطين الإنس والجن فدعا ليصل بسبب الدعاء إلى مقام القرب فيصير مأمونا من غوائل شياطين الجن والإنس . وثانيها : أن المراد أنه أراد الذهاب إلى فرعون وقومه فأراد أن يقطع طمع الخلق عن نفسه بالكلية فعرف أن من دعا ربه قربه له وقربه لديه فحينئذ تنقطع الأطماع بالكلية فقال : { رب اشرح لي صدري } . وثالثها : الوجود كالنور والعدم كالظلمة وكل ما سوى الله تعالى فهو عدم محض فكل شيء هالك إلا وجهه فالكل كأنهم في ظلمات العدم وإظلال عالم الأجسام والإمكان فقال : { رب اشرح لي صدري } حتى يجلس قلبي في بهي ضوء المعرفة وسادة شرح الصدر والجالس في الضوء لا يرى من كان جالسا في الظلمة فحين جلس في ضوء شرح الصدر لا يرى أحدا في الوجود فلهذا عقبه بقوله : { ويسر لي أمري } فإن العبد في مقام الاستغراق لا يتفرغ لشيء من المهمات . ورابعها : رب اشرح لي صدري فإن عين العين ضعيفة فأطلع يا إلهي شمس التوفيق حتى أرى كل شيء كما هو ، وهذا في معنى قول محمد صلى الله عليه وسلم : « أرنا الأشياء كما هي » واعلم أن شرح الصدر مقدمة لسطوع الأنوار الإلهية في القلب والاستماع مقدمة الفهم الحاصل من سماع الكلام فالله تعالى أعطى موسى عليه السلام المقدمة الثانية وهي فاستمع لما يوحى فلا جرم نسج موسى على ذلك المنوال فطلب المقدمة الأخرى فقال : { رب اشرح لي صدري } ولما آل الأمر إلى محمد صلى الله عليه وسلم قيل له : { وقل رب زدني علما } والعلم هو المقصود ، فلما كان موسى عليه السلام كالمقدمة لمقدم محمد صلى الله عليه وسلم لا جرم أعطى المقدمة ، ولما كان محمد كالمقصود لا جرم أعطى المقصود فسبحانه ما أدق حكمته في كل شيء . وسادسها : الداعي له صفتان : إحداهما : أن يكون عبدا للرب : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } . وثانيتهما : أن يكون الرب له : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } أضاف نفسه إلينا وما أضافنا إلى نفسه والمشتغل بالدعاء قد صار كاملا من هذين الوجهين فأراد موسى عليه السلام أن يرتع في هذا البستان فقال : { رب اشرح لي صدري } .

وسابعها : أن موسى عليه السلام شرفه الله تعالى بقوله : { وقربناه نجيا } فكأن موسى عليه السلام قال إلهي لما قلت : { وقربناه نجيا } صرت قريبا منك ولكن أريد قربك مني فقال يا موسى أما سمعت قولي : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } فأشتغل بالدعاء حتى أصير قريبا منك فعند ذلك : { قال رب اشرح لي صدري } . وثامنها : قال موسى عليه السلام : { رب اشرح لي صدري } وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم : { ألم نشرح لك صدرك } ثم إنه تعالى ما تركه على هذه الحالة بل قال : { وسراجا منيرا } فانظر إلى التفاوت فإن شرح الصدر هو أن يصير الصدر قابلا للنور والسراج المنير هو أن يعطي النور فالتفاوت بين موسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم كالتفاوت بين الآخذ والمعطي ثم نقول إلهنا إن ديننا وهي كلمة لا إله إلا الله نور ، والوضوء نور ، والصلاة نور ، والقبر نور ، والجنة نور ، فبحق أنوارك التي أعطيتنا في الدنيا لا تحرمنا أنوار فضلك وإحسانك يوم القيامة . الفصل الرابع : في قوله : { رب اشرح لي صدري } سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر فقال : نور يقذف في القلب ، فقيل : وما أمارته فقال : التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل النزول ، ويدل على أن شرح الصدر عبارة عن النور قوله تعالى : { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } واعلم أن الله تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور ، أحدها : وصف ذاته بالنور : { الله نور السماوات والأرض } . وثانيها : الرسول : { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } . وثالثها : القرآن : { واتبعوا النور الذي أنزل معه } . ورابعها : الإيمان : { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم } . وخامسها : عدل الله : { وأشرقت الأرض بنور ربها } . وسادسها : ضياء القمر : { وجعل القمر فيهن نورا } ، وسابعها : النهار : { وجعل الظلمات والنور } . وثامنها : البينات : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } . وتاسعها : الأنبياء : { نور على نور } . وعاشرها : المعرفة : { مثل نوره كمشكاة فيها مصباح } إذا ثبت هذا فنقول كأن موسى عليه السلام قال : { رب اشرح لي صدري } بمعرفة أنوار جلالك وكبريائك . وثانيها : رب اشرح لي صدري ، بالتخلق بأخلاق رسلك وأنبيائك . وثالثها : رب اشرح لي صدري ، باتباع وحيك وامتثال أمرك ونهيك . ورابعها : رب اشرح لي صدري ، بنور الإيمان والإيقان بإلهيتك . وخامسها : رب اشرح صدري بالإطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك . وسادسها : رب اشرح لي صدري بالإنتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلال عزتك كما فعله إبراهيم عليه السلام حيث انتقل من الكوكب والقمر والشمس إلى حضرة العزة .

وسابعها : رب اشرح لي صدري من مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل عدلك . وثامنها : رب اشرح لي صدري بالإطلاع على مجامع آياتك ومعاقد بيناتك في أرضك وسمواتك . وتاسعها : رب اشرح لي صدري في أن أكون خلف صور الأنبياء المتقدمين ومتشبها بهم في الإنقياد لحكم رب العالمين . وعاشرها : رب اشرح لي صدري بأن تجعل سراج الإيمان في قلبي كالمشكاة التي فيها المصباح ، واعلم أن شرح الصدر عبارة عن إيقاد النور في القلب حتى يصير القلب كالسراج وذلك النور كالنار ، ومعلوم أن من أراد أن يستوقد سراجا احتاج إلى سبعة أشياء : زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن . فالعبد إذا طلب النور الذي هو شرح الصدر افتقر إلى هذه السبعة . فأولها : لا بد من زند المجاهدة : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } . وثانيها : حجر التضرع : { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } . وثالثها : حراق منع الهوى : { ونهى النفس عن الهوى } . ورابعها : كبريت الإنابة : { وأنيبوا إلى ربكم } ملطخا رؤوس تلك الخشبات بكبريت توبوا إلى الله . وخامسها : مسرجة الصبر : { واستعينوا بالصبر والصلاة } . وسادسها : فتيلة الشكر : { لئن شكرتم لأزيدنكم } . وسابعها : دهن الرضا : { واصبر لحكم ربك } أي ارض بقضاء ربك فإذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها بل ينبغي أن لا تطلب المقصود إلا من حضرته : { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها } ثم اطلبها بالخشوع والخضوع : { وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا } فعند ذلك ترفع يد التضرع وتقول : { رب اشرح لي صدري } فهنالك تسمع ؛ { قد أوتيت سؤلك يا موسى } ثم نقول هذا النور الروحاني المسمى بشرح الصدر أفضل من الشمس الجسمانية لوجوه : أحدها : الشمس تحجبها غمامة وشمس المعرفة لا يحجبها السماوات السبع : { إليه يصعد الكلم الطيب } . وثانيها : الشمس تغيب ليلا وتعود نهارا قال إبراهيم عليه السلام : { لا أحب الآفلين } أما شمس المعرفة فلا تغيب ليلا : { إن ناشئة الليل هي أشد وطئا } { والمستغفرين بالأسحار } بل أكمل الخلع الروحانية تحصل في الليل : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } . وثالثها : الشمس تفنى : { إذا الشمس كورت } وشمس المعرفة لا تفنى : { سلام قولا من رب رحيم } . ورابعها : الشمس إذا قابلها القمر انكسفت أما ههنا فشمس المعرفة وهي معرفة أشهد أن لا إله إلا الله ما لم يقابلها قمر أشهد أن محمدا رسول الله لم يصل نوره إلى عالم الجوارح . وخامسها : الشمس تسود الوجوه والمعرفة تبيضها :{ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } . وسادسها : الشمس تحرق والمعرفة تنجي من الحرق ، جزيا مؤمن فإن نورك قد أطفأ لهبي . وسابعها : الشمس تصدع والمعرفة تصعد : { إليه يصعد الكلم الطيب } . وثامنها : الشمس منفعتها في الدنيا والمعرفة منفعتها في العقبى : { والباقيات الصالحات خير } . وتاسعها : الشمس في السماء زينة لأهل الأرض والمعرفة في الأرض زينة لأهل السماء . وعاشرها : الشمس فوقاني الصورة تحتاني المعنى وذلك يدل على الحسد مع التكبر ، والمعارف الإلهية تحتانية الصورة فوقانية المعنى ، وذلك يدل على التواضع مع الشرف . وحادي عشرها : الشمس تعرف أحوال الخلق وبالمعرفة يصل القلب إلى الخالق . وثاني عشرها : الشمس تقع على الولي والعدو والمعرفة لا تحصل إلا للولي فلما كانت المعرفة موصوفة بهذه الصفات النفيسة لا جرم قال موسى : { رب اشرح لي صدري } وأما النكت : فإحداها : الشمس سراج استوقدها الله تعالى للفناء : { كل من عليها فان } والمعرفة استوقدها للبقاء فالذي خلقها للفناء لو قرب الشيطان منها لاحترق : { شهابا رصدا } والمعرفة التي خلقها للبقاء كيف يقرب منها الشيطان : { رب اشرح لي صدري } . وثانيتها : استوقد الله الشمس في السماء وإنها تزيل الظلمة عن بيتك مع بعدها عن بيتك ، وأوقد شمس المعرفة في قلبك أفلا تزيل ظلمة المعصية والكفر عن قلبك مع قربها منك . وثالثتها : من استوقد سراجا فإنه لا يزال يتعهده ويمده والله تعالى هو الموقد لسراج المعرفة : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان } أفلا يمده وهو معنى قوله : { رب اشرح لي صدري } . ورابعتها : اللص إذا رأى السراج يوقد في البيت لا يقرب منه والله قد أوقد سراج المعرفة في قلبك فكيف يقرب الشيطان منه فلهذا قال : { رب اشرح لي صدري } . وخامستها : المجوس أوقدوا نارا فلا يريدون إطفاءها والملك القدوس أوقد سراج الإيمان في قلبك فكيف يرضى بإطفائه ، واعلم أنه سبحانه وتعالى أعطى قلب المؤمن تسع كرامات ، أحدها : الحياة : { أو من كان ميتا فأحييناه } فلما رغب موسى عليه السلام في الحياة الروحانية قال : { رب اشرح لي صدري } ثم النكتة أنه عليه السلام قال من أحيا أرضا ميتة فهي له فالعبد لما أحيا أرضا فهي له فالرب لما خلق القلب وأحياه بنور الإيمان فكيف يجوز أن يكون لغيره فيه نصيب : { قل الله ثم ذرهم } وكما أن الإيمان حياة القلب بالكفر موته : { أموات غير أحياء وما يشعرون } . وثانيها : الشفاء : { ويشف صدور قوم مؤمنين } فلما رغب موسى في الشفاء رفع الأيدي قال : { رب اشرح لي صدري } والنكتة أنه تعالى لما جعل الشفاء في العسل بقي شفاء أبدا فههنا لما وضع الشفاء في الصدر فكيف لا يبقى شفاء أبدا .

وثالثها : الطهارة : { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } فلما رغب موسى عليه السلام في تحصيل طهارة التقوى قال : { رب اشرح لي صدري } والنكتة أن الصائغ إذا امتحن الذهب مرة فبعد ذلك لا يدخله في النار فههنا لما امتحن الله قلب المؤمن فكيف يدخله النار ثانيا ولكن الله يدخل في النار قلب الكافر : { ليميز الله الخبيث من الطيب } . ورابعها : الهداية ومن يؤمن بالله يهد قلبه فرغب موسى عليه السلام في طلب زوائد الهداية فقال : { رب اشرح لي صدري } والنكتة أن الرسول يهدي نفسك والقرآن يهدي روحك والمولى يهدي قلبك فلما كانت الهداية من الكفر من محمد صلى الله عليه وسلم لا جرم تارة تحصل وأخرى لا تحصل : { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } وهداية الروح لما كانت من القرآن فتارة تحصل وأخرى لا تحصل : { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا } أما هداية القلب فلما كانت من الله تعالى فإنها لا تزول لأن الهادي لا يزول : { ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } . وخامسها : الكتابة : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } فلما رغب موسى عليه السلام في تلك الكتابة قال : { رب اشرح لي صدري } وفيه نكت : الأولى : أن الكاغدة ليس لها خطر عظيم وإذا كتب فيها القرآن لم يجز إحراقها فقلب المؤمن كتب فيه جميع أحكام ذات الله تعالى وصفاته فكيف يليق بالكريم إحراقه . الثانية : بشر الحافي أكرم كاغدا فيه اسم الله تعالى فنال سعادة الدارين فإكرام قلب فيه معرفة الله تعالى أولى بذلك . والثالثة : كاغد ليس فيه خط إذا كتب فيه اسم الله الأعظم عظم قدره حتى أنه لا يجوز للجنب والحائض أن يمسه بل قال الشافعي رحمه الله تعالى ليس له أن يمس جلد المصحف ، وقال الله تعالى : { لا يمسه إلا المطهرون } فالقلب الذي فيه أكرم المخلوقات : { ولقد كرمنا بني آدم } كيف يجوز للشيطان الخبيث أن يمسه والله أعلم . وسادسها : السكينة : { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين } فلما رغب موسى عليه السلام في طلب السكينة قال : { رب اشرح لي صدري } والنكتة أن أبا بكر رضي الله عنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان خائفا فلما نزلت السكينة عليه قال : لا تحزن فلما نزلت سكينة الإيمان فرجوا أن يسمعوا خطاب : { ألا تخافوا ولا تحزنوا } وأيضا لما نزلت السكينة صار من الخلفاء : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض } أي أن يصيروا خلفاء الله في أرضه . وسابعها : المحبة والزينة : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم } والنكتة أن من ألقى حبة في أرض فإنه لا يفسدها ولا يحرقها فهو سبحانه وتعالى ألقى حبة المحبة في أرض القلب فكيف يحرقها . وثامنها : { وألف بين قلوبكم } والنكتة أن محمدا صلى الله عليه وسلم ألف بين قلوب أصحابه ثم إنه ما تركهم [ في ] غيبة ولا حضور : « سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين » فالرحيم كيف يتركهم . وتاسعها : الطمأنينة : { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } وموسى طلب الطمأنينة فقال : { رب اشرح لي صدري } والنكتة أن حاجة العبد لا نهاية لها فلهذا لو أعطى كل ما في العالم من الأجسام فإنه لا يكفيه لأن حاجته غير متناهية والأجسام متناهية والمتناهي لا يصير مقابلا لغير المتناهي بل الذي يكفي في الحاجة الغير المتناهية الكمال الذي لا نهاية له وما ذاك إلا للحق سبحانه وتعالى فلهذا قال : { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } ولما عرفت حقيقة شرح الصدر للمؤمنين فاعرف صفات قلوب الكافرين لوجوه : أحدها : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم . وثانيها : ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم . وثالثها : في قلوبهم مرض . ورابعها : جعلنا قلوبهم قاسية . وخامسها : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه . وسادسها : ختم الله على قلوبهم . وسابعها : أم على قلوب أقفالها . وثامنها : كلا بل ران على قلوبهم . وتاسعها : أولئك الذين طبع الله على قلوبهم . إلهنا وسيدنا بفضلك وإحسانك أغلق هذه الأبواب التسعة من خذلانك عنا واجبرنا بإحسانك وافتح لنا تلك الأبواب التسعة من إحسانك بفضلك ورحمتك إنك على ما تشاء قدير . الفصل الخامس : في حقيقة شرح الصدر ، ذكر العلماء فيه وجهين : الأول : أن لا يبقى للقلب التفات إلى الدنيا لا بالرغبة ولا بالرهبة أما الرغبة فهي أن يكون متعلق القلب بالأهل والولد وبتحصيل مصالحهم ودفع المضار عنهم ، وأما الرهبة فهي أن يكون خائفا من الأعداء والمنازعين فإذا شرح الله صدره صغر كل ما يتعلق بالدنيا في عين همته ، فيصير كالذباب والبق والبعوض لا تدعوه رغبة إليها ولا تمنعه رهبة عنها ، فيصير الكل عنده كالعدم وحينئذ يقبل القلب بالكلية نحو طلب مرضاة الله تعالى ، فإن القلب في المثال كينبوع من الماء والقوة البشرية لضعفها كالينبوع الصغير فإذا فرقت ماء العين الواحدة على الجداول الكثيرة ضعفت الكل فأما إذا انصب الكل في موضع واحد قوي فسأل موسى عليه السلام ربه أن يشرح له صدره بأن يوقفه على معايب الدنيا وقبح صفاتها حتى يصير قلبه نفورا عنها فإذا حصلت النفرة توجه إلى عالم القدس ومنازل الروحانيات بالكلية . الثاني : أن موسى عليه السلام لما نصب لذلك المنصب العظيم احتاج إلى تكاليف شاقة منها ضبط الوحي والمواظبة على خدمة الخالق سبحانه وتعالى ومنها إصلاح العالم الجسداني فكأنه صار مكلفا بتدبير العالمين والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالآخر ، ألا ترى أن المشتغل بالإبصار يصير ممنوعا عن السماع والمشتغل بالسماع يصير ممنوعا عن الإبصار والخيال ، فهذه القوى متجاذبة متنازعة وأن موسى عليه السلام كان محتاجا إلى الكل ومن استأنس بجمال الحق استوحش من جمال الخلق فسأل موسى ربه أن يشرح صدره بأن يفيض عليه كمالا من القوة لتكون قوته وافية بضبط العالمين فهذا هو المراد من شرح الصدر .

وذكر العلماء لهذا المعنى أمثلة . المثال الأول : اعلم أن البدن بالكلية كالمملكة والصدر كالقلعة والفؤاد كالقصر والقلب كالتخت والروح كالملك والعقل كالوزير والشهوة كالعامل الكبير الذي يجلب النعم إلى البلدة والغضب كالاسفهسالار الذي يشتغل بالضرب والتأديب أبدا والحواس كالجواسيس وسائر القوى كالخدم والعملة والصناع ثم إن الشيطان خصم لهذه البلدة ولهذه القلعة ولهذا الملك فالشيطان هو الملك والهوى والحرص وسائر الأخلاق الذميمة جنوده فأول ما أخرج الروح وزيره وهو العقل فكذا الشيطان أخرج في مقابلته الهوى فجعل العقل يدعو إلى الله تعالى والهوى يدعو إلى الشيطان ثم إن الروح أخرج الفطنة إعانة للعقل فأخرج الشيطان في مقابلة الفطنة الشهوة ، فالفطنة توقفك على معايب الدنيا والشهوة تحركك إلى لذات الدنيا ثم إن الروح أمد الفطنة بالفكرة لتقوي الفطنة بالفكرة فتقف على الحاضر والغائب من المعائب على ما قال عليه السلام : « تفكر ساعة خير من عبادة سنة » فأخرج الشيطان في مقابلة الفكرة الغفلة ثم أخرج الروح الحلم والثبات فإن العجلة ترى الحسن قبيحا والقبيح حسنا والحلم يوقف العقل على قبح الدنيا فأخرج الشيطان في مقابلته العجلة والسرعة فلهذا قال عليه السلام : « ما دخل الرفق في شيء إلا زانه ولا الخرق في شيء إلا شانه » ولهذا خلق السماوات والأرض في ستة أيام ليتعلم منه الرفق والثبات فهذه هي الخصومة الواقعة بين الصنفين ، وقلبك وصدرك هو القلعة . ثم إن لهذا الصدر الذي هو القلعة خندقا وهو الزهد في الدنيا وعدم الرغبة فيها وله سور وهو الرغبة الآخرة ومحبة الله تعالى فإن كان الخندق عظيما والسور قويا عجز عسكر الشيطان عن تخريبه فرجعوا وراءهم وتركوا القلعة كما كانت وإن كان خندق الزهد غير عميق وسور حب الآخرة غير قوي قدر الخصم على استفتاح قلعة الصدر فيدخلها ويبيت فيها جنوده من الهوى والعجب والكبر والبخل وسوء الظن بالله تعالى والنميمة والغيبة فينحصر الملك في القصر ويضيق الأمر عليه فإذا جاء مدد التوفيق وأخرج هذا العسكر من القلعة انفسح الأمر وانشرح الصدر وخرجت ظلمات الشيطان ودخلت أنوار هداية رب العالمين وذلك هو المراد بقوله : { رب اشرح لي صدري } . المثال الثاني : اعلم أن معدن النور هو القلب واشتغال الإنسان بالزوجة والولد والرغبة في مصاحبة الناس والخوف من الأعداء هو الحجاب المانع من وصول نور شمس القلب إلى فضاء الصدر فإذا قوى الله بصيرة العبد حتى طالع عجز الخلق وقلة فائدتهم في الدارين صغروا في عينه ولا شك في أنهم من حيث هم عدم محض على ما قال تعالى :{ كل شيء هالك إلا وجهه } فلا يزال العبد يتأمل فيما سوى الله تعالى إلى أن يشاهد أنهم عدم محض فعند ذلك يزول الحجاب بين قلبه وبين أنوار جلال الله تعالى وإذا زال الحجاب امتلأ القلب من النور فذلك هو انشراح الصدر .

الفصل السادس : في الصدر اعلم أنه يجيء والمراد منه القلب : { أفمن شرح الله صدره للإسلام } ، { رب اشرح لي صدري } ، { وحصل ما في الصدور } ، { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور } وقد يجيء والمراد الفضاء الذي فيه الصدر : { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } واختلف الناس في أن محل العقل هل هو القلب أو الدماغ وجمهور المتكلمين على أنه القلب ، وقد شرحنا هذه المسألة في سورة الشعراء في تفسير قوله : { نزل به الروح الأمين * على قلبك } وقال بعضهم المواد أربعة : الصدر والقلب والفؤاد واللب فالصدر مقر الإسلام : { أفمن شرح الله صدره للإسلام } والقلب مقر الإيمان : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينة في قلوبكم } والفؤاد مقر المعرفة : { ما كذب الفؤاد ما رأى } { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا } واللب مقر التوحيد : { إنما يتذكر أولو الألباب } واعلم أن القلب أول ما بعث إلى هذا العالم بعث خاليا عن النقوش كاللوح الساذج وهو في عالم البدن كاللوح المحفوظ ، ثم إنه تعالى يكتب فيه بقلم الرحمة والعظمة كل ما يتعلق بعالم العقل من نقوش الموجودات وصور الماهيات وذلك يكون كالسطر الواحد إلى آخر قيام القيامة لهذا العالم الأصغر وذلك هو الصورة المجردة والحالة المطهرة ، ثم إن العقل يركب سفينة التوفيق ويلقيها في بحار أمواج المعقولات وعوالم الروحانيات فيحصل من مهاب رياح العظمة والكبرياء رخاء السعادة تارة ودبور الإدبار أخرى ، فربما وصلت سفينة النظر إلى جانب مشرق الجلال فتسطع عليه أنوار الإلهية ويتخلص العقل عن ظلمات الضلالات ، وربما توغلت السفينة في جنوب الجهالات فتنكسر وتغرق فحيثما تكون السفينة في ملتطم أمواج العزة يحتاج حافظ السفينة إلى التماس الأنوار والهدايات فيقول هناك : { رب اشرح لي صدري } واعلم أن العقل إذا أخذ في الترقي من سفل الإمكان إلى علو الوجوب كثر اشتغاله بمطالعة الماهيات ومقارفة المجردات والمفارقات ، ومعلوم أن كل ماهية فهي إما هي معه أو هي له ، فإن كانت هي معه امتلأت البصيرة من أنوار جلال العزة الإلهية فلا يبقى هناك مستطلعا لمطالعة سائر الأنوار فيضمحل كل ما سواه من بصر وبصيرة ، وإن وقعت المطالعة لما هو له حصلت هناك حالة عجيبة ، وهي أنه لو وضعت كرة صافية من البلور فوقع عليها شعاع الشمس فينعكس ذلك الشعاع إلى موضع معين فذلك الموضع الذي إليه تنعكس الشعاعات يحترق فجميع الماهيات الممكنة كالبلور الصافي الموضوع في مقابلة شمس القدس ونور العظمة ومشرق الجلال ، فإذا وقع للقلب التفات إليها حصلت للقلب نسبة إليها بأسرها فينعكس شعاع كبرياء الإلهية عن كل واحد منها إلى القلب فيحترق القلب ، ومعلوم أنه كلما كان المحرق أكثر ، كان الإحتراق أتم فقال : { رب اشرح لي صدري } حتى أقوى على إدراك درجات الممكنات فأصل إلى مقام الاحتراق بأنوار الجلال ، وهذا هو المراد بقوله عليه السلام :« أرنا الأشياء كما هي » فلما شاهد احتراقها بأنوار الجلال قال : « لا أحصى ثناء عليك » . الفصل السابع : في بقية الأبحاث إنما قال : { رب اشرح لي صدري } ولم يقل رب اشرح صدري ليظهر أن منفعة ذلك الشرح عائدة إلى موسى عليه السلام لا إلى الله ، وأما كيفية شرح صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمفاضلة بينه وبين شرح صدر موسى عليه السلام فنذكره إن شاء الله في تفسير قوله : { ألم نشرح لك صدرك } والله أعلم بالصواب .