روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{قَالَ رَبِّ ٱشۡرَحۡ لِي صَدۡرِي} (25)

{ قَالَ } استئناف بياني كأنه قيل فماذا قال موسى عليه السلام حين قيل له ما قيل ؟ فأجيب بأنه قال : { رَبِّ اشْرَحْ لي صَدْري } .

من باب الإشارة : { رَبّ اشرح لِي صَدْرِي } [ طه : 25 ] لم يذكر عليه السلام بم يشرح صدره وفيه احتمالات .

قال بعض الناس : إنه تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور . الأول ذاته جل شأنه { الله نُورُ السموات والأرض } [ النور : 35 ] الثاني الرسول صلى الله عليه وسلم : { قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ وكتاب } [ المائدة : 15 ] ، الثالث الكتاب { واتبعوا النور الذى أُنزِلَ مَعَهُ } [ الأعراف : 157 ] ، الرابع الإيمان : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله } [ التوبة : 32 ] الخامس عدل الله تعالى : { وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبّهَا } [ الزمر : 69 ] السادس القمر { وَجَعَلَ القمر نُوراً } [ النوح : 16 ] السابع النهار { وَجَعَلَ الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] .

الثامن البينات { إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } [ المائدة : 44 ] . التاسع الأنبياء عليهم السلام { نور على نور } [ النور : 35 ] ؛ العاشر المعرفة { مثل نوره كمشكاة فيها مصباح } [ النور : 35 ] فكان موسى عليه السلام قال أولاً { رَبّ اشرح لِى صَدْرِى } [ طه : 25 ] بمعرفة أنوار جلال كبريائك ، وثانياً { رَبّ اشرح لي صدري } بالتخلق بأخرق رسلك وأنبيائك ، وثالثاً { رَبّ اشرح لِي صَدْرِي } باتباع وحبيك وامتثال أمرك ونهيك ، ورابعاً { رَبّ اشرح لِي صَدْرِي } بنور الإيمان والإيقان بإلهيتك ، وخامساً { رَبّ اشرح لِي صَدْرِي } بالاطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك .

وسادسا { رَبّ اشرح لِي صَدْرِي } بالانتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلال عزتك كما فعله إبراهيم عليه السلام ، وسابعا { رَبّ اشرح لِي صَدْرِي } من مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل قهرك ، وثامنا «رب اشرح لي صدري » بالاطلاع على مجامع آياتك ومعاقد بيناتك في أرضك وسمواتك ، وتاسعا { رَبّ اشرح لِى صَدْرِى } في أن أكون خلف صدق للأنبياء المتقدمين ومشابهاً لهم في الانقياد لحكم رب العالمين ، وعاشراً { رَبّ اشرح لِي صَدْرِى } بأن يجعل سراج الإيمان كالمشكاة التي فيها المصباح انتهى .

ولا يخفى ما بين أكثر ما ذكر من التلازم واغناء بعضه عن بعض ، وقال أيضاً : إن شرح الصدر عبارة عن إيقاد النور في القلب حتى يصير كالسراج ، ولا يخفى أن مستوقد السراج مجتاح إلى سبعة أشياء زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن ، فالزند زند المجاهدة { والذين جاهدوا } [ العنكبوت : 69 ] والحجر حجر التضرع { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } [ الأعراف : 55 ] والمسرجة الصبر { واستعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 45 ] والفتيلة الشكر و { لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ } ( إبراهيم 7 ) والدهن الرضا { واصبر لِحُكْمِ رَبّكَ } [ الطور : 48 ] أي ارض بقضائه ، ثم إذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها بل ينبغي أن تطلب المقصود من حضرة ربك جل وعلا قائلاً : { رَبّ اشرح لِى صَدْرِى } فهنالك تسمع { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا موسى } [ طه : 36 ] ثم إن هذا النور الروحاني أفضل من الشمس الجسمانية لوجوه ، الأول أن الشمس يحجبها الغيم وشمس المعرفة لا تحجبها السموات السبح { إليه يصعد الكلم الطيب } [ فاطر : 10 ] . الثاني الشمس تغيب ليلاً وشمس المعرفة لا تغيب ليلاً : { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِي أَشَدُّ وطئا وأقوم قيلا } [ المزمل : 6 ] { والمستغفرين بالأسحار } [ آل عمران : 17 ] { سبحان الذي أسري بعبده ليلاً } [ الإسراء : 1 ] .

الليل للعاشقين ستر *** يا ليت أوقاته تدوم

الثالث الشمس تفنى { إِذَا الشمس كُوّرَتْ } [ التكوير : 1 ] والمعرفة لا تفنى . { أصلها ثابت وفرعها في السماء } [ إبراهيم : 24 ] { سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ } يس : 58 ) ، الرابع الشمس إذا قابلها القمر انكسفت ، وشمس المعرفة وهي { أُشْهِدُ أَن لاَّ إله إِلاَّ الله } إذا لم تقرن بقمر النبوة وهي أشهد أن محمداً رسول الله لم يصل النور إلى عالم الجوارح ، الخامس الشمس تسود الوجوه والمعرفة تبيض الوجوه { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 106 ] ، السادس الشمس تصدع والمعرفة تصعد .

السابع الشمس تحرق والمعرفة تمنع من الاحراق ( جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي ) الثامن الشمس منفعتها في الدنيا والمعرفة منفعتها في الدارين { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النحل : 97 ] التاسع الشمس فوقانية الصورة تحتانية المعنى والمعارف الإلهية بالعكس ، العاشر الشمس تقع على الولي والعدو والمعرفة لا تحصل إلا للولي ، الحادي عشر الشمس ترعف أحوال الخلق والمعرفة توصل القلب إلى الخالق ، ولما كان شرح الصدر الذي هو أول مراتب الروحانيات أشرف من أعلى مراتب الجسمانيات بدأ موسى عليه السلام بطلبه قائلاً { رب اشرح لي صدري { وعلامة شرح الصدر ودخول النور الإلهي فيه التجافي عن دار الغرور والرغبة في دار الخلود وشبهوا الصدر بقلعة وجعلوا الأول كالخندق لها والثاني كالسور فمتى كان الخندق عظيماً والسور محكماً عجز عسكر الشيطان من الهوى والكبر والعجب والبخل وسوء الظن بالله تعالى وسائر الخصال الذميمة ومتى لم يكونا كذلك دخل العسكر وحينئذ ينحصر الملك في قصر القلب ويضيق الأمر عليه .

وفرقوا بين الصدر والقلب والفؤاد واللب بأن الصدر مقر الإسلام { أفمن شرح الله صدره للإسلام } [ الزمر : 22 ] والقلب مقر الإيمان { حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 7 ] { أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان } [ المجادلة : 22 ] والفؤاد مقر المشاهدة { مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى } [ النجم : 11 ] واللب مقام التوحيد { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب } [ الرعد : 91 ] أي الذين خرجوا من قشر الوجود المجازي وبقوا بلب الوجود الحقيقي ؛ وإنما سأل موسى عليه السلام شرح الصدر دون القلب لأن انشراح الصدر يستلزم انشراح القلب دون العكس وأيضاً شرح الصدر كالمقدمة لشرح القلب والحر تكفيه الإشارة ، فإذا علم المولى سبحانه أنه طالب للمقدمة فلا يليق بكرمه أن يمنعه النتيجة . وأيضاً أنه عليه السلام راعي الأدب في الطلب فاقتصر على طلب الأدنى فلا جرم أعطى المقصود فقيل : { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا موسى } [ طه : 6 ] ولما اجترأ في طلب الرؤية ، قيل له : { لَن تَرَانِى } [ الأعراف : 143 ] ، ولا يخفى ما بين قول موسى عليه السلام لربه عز وجل { رَبّ اشرح لِى صَدْرِى } [ طه : 25 ] وقول الرب لحبيبه صلى الله عليه وسلم { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] ويعلم منه أن الكليم عليه السلام مريد والحبيب صلى الله عليه وسلم مراد والفرق مثل الصبح ظاهر .

ويزيد الفرق ظهوراً أن موسى عليه السلام في الحضرة الإلهية طلب لنفسه ونبينا صلى الله عليه وسلم حين قيل له هناك السلام عليك أيها النبي قال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وقد أطال الإمام الكلام في هذه الآية بما هو من هذا النمط فارجع إليه إن أردته .