مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَمَا تِلۡكَ بِيَمِينِكَ يَٰمُوسَىٰ} (17)

قوله تعالى :{ وما تلك بيمينك يا موسى ، قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى ، قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى ، قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى }

اعلم أن قوله : { وما تلك بيمينك } لفظتان ، فقوله : { وما تلك } إشارة إلى العصا ، وقوله : { بيمينك } إشارة إلى اليد ، وفي هذا نكت ، إحداها : أنه سبحانه لما أشار إليهما جعل كل واحدة منهما معجزا قاهرا وبرهانا باهرا ، ونقله من حد الجمادية إلى مقام الكرامة ، فإذا صار الجماد بالنظر الواحد حيوانا ، وصار الجسم الكثيف نورانيا لطيفا ، ثم إنه تعالى ينظر كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة إلى قلب العبد ، فأي عجب لو انقلب قلبه من موت العصيان إلى سعادة الطاعة ونور المعرفة . وثانيها : أن بالنظر الواحد صار الجماد ثعبانا يبتلع سحر السحرة ، فأي عجب لو صار القلب بمدد النظر الإلهي بحيث يبتلع سحر النفس الأمارة بالسوء . وثالثها : كانت العصا في يمين موسى عليه السلام فبسبب بركة يمينه انقلبت ثعبانا وبرهانا ، وقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن فإذا حصلت ليمين موسى عليه السلام هذه الكرامة والبركة ، فأي عجب لو انقلب قلب المؤمن بسبب إصبعي الرحمن من ظلمة المعصية إلى نور العبودية ، ثم ههنا سؤالات : الأول : قوله : { وما تلك بيمينك يا موسى } سؤال والسؤال إنما يكون لطلب العلم وهو على الله تعالى محال فما الفائدة فيه . والجواب فيه فوائد : إحداها : أن من أراد أن يظهر من الشيء الحقير شيئا شريفا فإنه يأخذه ويعرضه على الحاضرين ويقول لهم : هذا ما هو ؟ فيقولون هذا هو الشيء الفلاني ثم إنه بعد إظهار صفته الفائقة فيه يقول لهم خذا منه كذا وكذا . فالله تعالى لما أراد أن يظهر من العصا تلك الآيات الشريفة كانقلابها حية ، وكضربه البحر حتى انفلق ، وفي الحجر حتى انفجر منه الماء ، عرضه أولا على موسى فكأنه قال له : يا موسى هل تعرف حقيقة هذا الذي بيدك وأنه خشبة لا تضر ولا تنفع ، ثم إنه قلبه ثعبانا عظيما ، فيكون بهذا الطريق قد نبه العقول على كمال قدرته ونهاية عظمته من حيث إنه أظهر هذه الآيات العظيمة من أهون الأشياء عنده فهذا هو الفائدة من قوله : { وما تلك بيمينك يا موسى } . وثانيها : أنه سبحانه لما أطلعه على تلك الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء وأسمعه تسبيح الملائكة ثم أسمعه كلام نفسه ، ثم إنه مزج اللطف بالقهر فلاطفه أولا بقوله : { وأنا اخترتك } ثم قهره بإيراد التكاليف الشاقة عليه وإلزامه علم المبدأ والوسط والمعاد ثم ختم كل ذلك بالتهديد العظيم ، تحير موسى ودهش وكاد لا يعرف اليمين من الشمال فقيل له : { وما تلك بيمينك يا موسى } ليعرف موسى عليه السلام أن يمينه هي التي فيها العصا ، أو لأنه لما تكلم معه أولا بكلام الإلهية وتحير موسى من الدهشة تكلم معه بكلام البشر إزالة لتلك الدهشة والحيرة ، والنكتة فيه أنه لما غلبت الدهشة على موسى في الحضرة أراد رب العزة إزالتها فسأله عن العصا وهو لا يقع الغلط فيه .

كذلك المؤمن إذا مات ووصل إلى حضرة ذي الجلال فالدهشة تغلبه والحياء يمنعه عن الكلام فيسألونه عن الأمر الذي لم يغلط فيه في الدنيا وهو التوحيد ، فإذا ذكره زالت الدهشة والوحشة عنه . وثالثها : أنه تعالى لما عرف موسى كمال الإلهية أراد أن يعرفه نقصان البشرية ، فسأله عن منافع العصا فذكر بعضها فعرفه الله تعالى أن فيها منافع أعظم مما ذكر ، تنبيها على أن العقول قاصرة عن معرفة صفات النبي الحاضر فلولا التوفيق والعصمة كيف يمكنهم الوصول إلى معرفة أجل الأشياء وأعظمها . ورابعها : فائدة هذا السؤال أن يقرر عنده أنه خشبة حتى إذا قلبها ثعبانا لا يخافها . السؤال الثاني : قوله : { وما تلك بيمينك يا موسى } خطاب من الله تعالى مع موسى عليه السلام بلا واسطة ، ولم يحصل ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم فيلزم أن يكون موسى أفضل من محمد . الجواب من وجهين : الأول : أنه تعالى كما خاطب موسى فقد خاطب محمدا عليه السلام في قوله : { فأوحى إلى عبده ما أوحى } إلا أن الفرق بينهما أن الذي ذكره مع موسى عليه السلام أفشاه الله إلى الخلق ، والذي ذكره مع محمد صلى الله عليه وسلم كان سرا لم يستأهل له أحد من الخلق . والثاني : إن كان موسى تكلم معه وهو [ تكلم ] مع موسى فأمة محمد صلى الله عليه وسلم يخاطبون الله في كل يوم مرات على ما قال صلى الله عليه وسلم : " المصلي يناجي ربه " والرب يتكلم مع آحاد أمة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بالتسليم والتكريم والتكليم في قوله : { سلام قولا من رب رحيم } . السؤال الثالث : ما إعراب قوله : { وما تلك بيمينك يا موسى } الجواب ، قال صاحب «الكشاف » : ( تلك بيمينك ) كقوله : { وهذا بعلي شيخا } في انتصاب الحال بمعنى الإشارة ويجوز أن يكون تلك اسما موصولا وصلته { بيمينك } قال الزجاج : معناه وما التي بيمينك ، قال الفراء : معناه ما هذه التي في يمينك ،