مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيۡهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَـَٔارِبُ أُخۡرَىٰ} (18)

واعلم أنه سبحانه لما سأل موسى عليه السلام عن ذلك أجاب موسى عليه السلام بأربعة أشياء ، ثلاثة على التفصيل وواحد على الإجمال . الأول : قوله : { هي عصاي } قرأ ابن أبي إسحق : ( هي عصي ) ومثلها : ( يا بشرى ) وقرأ الحسن ( هي عصاي ) بسكون الياء والنكث ههنا ثلاثة .

إحداها : أنه قال : { هي عصاي } فذكر العصا ومن كان قلبه مشغولا بالعصا ومنافعها كيف يكون مستغرقا في بحر معرفة الحق ولكن محمدا صلى الله عليه وسلم عرض عليه الجنة والنار فلم يلتفت إلى شيء :{ ما زاغ البصر وما طغى } ولما قيل له امدحنا ، قال : « لا أحصي ثناء عليك » ثم نسي نفسه ونسي ثناءه فقال : « أنت كما أثنيت على نفسك » وثانيها : لما قال : { عصاي } قال الله سبحانه وتعالى : { ألقها } ، فلما ألقاها { فإذا هي حية تسعى } ليعرف أن كل ما سوى الله فالالتفات إليه شاغل وهو كالحية المهلكة لك . ولهذا قال الخليل عليه السلام : { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } وفي الحديث : « يجاء يوم القيامة بصاحب المال الذي لم يؤد زكاته ويؤتى بذلك المال على صورة شجاع أقرع » الحديث بتمامه . وثالثها : أنه قال هي عصاي فقد تم الجواب ، إلا أنه عليه السلام ذكر الوجوه الأخر لأنه كان يحب المكالمة مع ربه فجعل ذلك كالوسيلة إلى تحصيل هذا الغرض . الثاني : قوله : { أتوكأ عليها } والتوكي ، والإتكاء ، واحد كالتوقي ، والإتقاء معناه اعتمد عليها إذا عييت أو وقفت على رأس القطيع أو عند الطفرة فجعل موسى عليه السلام نفسه متوكئا على العصا وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : « اتكئ على رحمتي » بقوله تعالى : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } وقال : { والله يعصمك من الناس } فإن قيل : أليس قوله : { ومن اتبعك من المؤمنين } يقتضي كون محمد يتوكأ على المؤمنين ؟ قلنا قوله : { ومن اتبعك من المؤمنين } معطوف على الكاف في قوله : { حسبك الله } والمعنى الله حسبك ، وحسب من اتبعك من المؤمنين . الثالث : قوله : { وأهش بها على غنمي } أي أخبط بها فأضرب أغصان الشجر ليسقط ورقها على غنمي فتأكله . وقال أهل اللغة : هش على غنمه ، يهش بضم الهاء في المستقبل ، وهششت الرجل أهش بفتح الهاء في المستقبل ، وهش الرغيف يهش بكسر الهاء . قاله ثعلب ، وقرأ عكرمة : ( وأهس ) بالسين غير المنقوطة ، والهش زجر الغنم ، واعلم أن غنمه رعيته فبدأ بمصالح نفسه في قوله : { أتوكأ عليها } ثم بمصالح رعيته في قوله : { وأهش بها على غنمي } فكذلك في القيامة يبدأ بنفسه فيقول : نفسي نفسي ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يشتغل في الدنيا إلا بإصلاح أمر الأمة : { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } . « اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون » فلا جرم يوم القيامة يبدأ أيضا بأمته فيقول : « أمتي أمتي » والرابع : قوله : { ولي فيها مآرب أخرى } أي حوائج ومنافع واحدتها مأربة بفتح الراء وضمها ، وحكى ابن الأعرابي وقطرب بكسر الراء أيضا ، والأرب بفتح الراء ، والإربة بكسر الألف وسكون الراء الحاجة ، وإنما قال أخرى لأن المآرب في معنى جماعة فكأنه قال : جماعة من الحاجات أخرى ولو جاءت أخر لكان صوابا كما قال :{ فعدة من أيام أخر } ثم ههنا نكت . إحداها : أنه لما سمع قول الله تعالى : { وما تلك بيمينك } عرف أن لله فيه أسرارا عظيمة فذكر ما عرف وعبر عن البواقي التي ما عرفها إجمالا لا تفصيلا بقوله : { ولي فيها مآرب أخرى } . وثانيها : أن موسى عليه السلام أحس بأنه تعالى إنما سأله عن أمر العصا لمنافع عظيمة . فقال موسى : إلهي ما هذه العصا إلا كغيرها ، لكنك لما سألت عنها عرفت أن لي فيها مآرب أخرى ومن جملتها أنك كلمتني بسببها فوجدت هذا الأمر العظيم الشريف بسببها . وثالثها : أن موسى عليه السلام أجمل رجاء أن يسأل ربه عن تلك المآرب فيسمع كلام الله مرة أخرى ويطول أمر المكالمة بسبب ذلك . ورابعها : أنه بسبب اللطف انطلق لسانه ثم غلبته الدهشة فانقطع لسانه وتشوش فكره فأجمل مرة أخرى ، ثم قال وهب : كانت ذات شعبتين كالمحجن ، فإذا طال الغصن حناه بالمحجن ، وإذا حاول كسره لواه بالشعبتين ، [ و ] إذا سار وضعها على عاتقه يعلق فيها أدواته من القوس والكنانة والثياب ، وإذا كان في البرية ركزها وألقى كساء عليها فكانت ظلا . وقيل : كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلوا ويصيران شمعتين في الليالي ، وإذا ظهر عدو حاربت عنه . وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت . وكان يحمل عليها زاده وماءه وكانت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نصب وكانت تقيه الهوام .