مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ وَلَدَيۡنَا كِتَٰبٞ يَنطِقُ بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (62)

قوله تعالى : { ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم يظلمون بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون } .

اعلم أنه سبحانه لما ذكر كيفية أعمال المؤمنين المخلصين ذكر حكمين من أحكام أعمال العباد فالأول : قوله : { ولا نكلف نفسا إلا وسعها } وفي الوسع قولان : أحدهما : أنه الطاقة عن المفضل . والثاني : أنه دون الطاقة وهو قول المعتزلة ومقاتل والضحاك والكلبي واحتجوا عليه بأن الوسع إنما سمي وسعا لأنه يتسع عليه فعله ولا يصعب ولا يضيق ، فبين أن أولئك المخلصين لم يكلفوا أكثر مما عملوا . قال مقاتل من لم يستطع أن يصلي قائما فليصل جالسا ومن لم يستطع جالسا فليوم إيماء لأنا لا نكلف نفسا إلا وسعها ، واستدلت المعتزلة به في نفي تكليف ما لا يطاق وقد تقدم القول فيه . الثاني : قوله : { ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون } ونظيره قوله { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } وقوله : { لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } .

واعلم أنه تعالى شبه الكتاب بمن يصدر عنه البيان فإن الكتاب لا ينطق لكنه يعرب بما فيه كما يعرب وينطق الناطق إذا كان محقا ، فإن قيل هؤلاء الذين يعرض عليهم ذلك الكتاب إما أن يكونوا محيلين الكذب على الله تعالى أو مجوزين ذلك عليه ، فإن أحالوه عليه فإنهم يصدقونه في كل ما يقول سواء وجد الكتاب أو لم يوجد ، وإن جوزوه عليه لم يثقوا بذلك الكتاب لتجويزهم أنه سبحانه كتب فيه خلاف ما حصل . فعلى التقديرين لا فائدة في ذلك الكتاب ؟ قلنا يفعل الله ما يشاء وعلى أنه لا يبعد أن يكون ذلك مصلحة للمكلفين من الملائكة .

وأما قوله : { وهم لا يظلمون } فنظيره قوله : { ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا } فقالت المعتزلة الظلم إما أن يكون بالزيادة في العقاب أو بالنقصان من الثواب أو بأن يعذب على ما لم يعلم أو بأن يكلفهم ما لا يطيقون فتكون الآية دالة على كون العبد موجدا لفعله وإلا لكان تعذيبه عليه ظلما ودالة على أنه سبحانه لا يكلف ما لا يطاق الجواب : أنه لما كلف أبا لهب أن يؤمن ، والإيمان يقتضي تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه ومما أخبر عنه أن أبا لهب لا يؤمن فقد كلفه بأن يؤمن بأنه لا يؤمن فيلزمكم كل ما ذكرتموه .