مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ} (60)

الصفة الرابعة : قوله : { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة } معناه يعطون ما أعطوا فدخل فيه كل حق يلزم إيتاؤه سواء كان ذلك من حق الله تعالى : كالزكاة والكفارة وغيرهما ، أو من حقوق الآدميين : كالودائع والديون وأصناف الإنصاف والعدل ، وبين أن ذلك إنما ينفع إذا فعلوه وقلوبهم وجلة ، لأن من يقدم على العبادة وهو وجل من تقصيره وإخلاله بنقصان أو غيره ، فإنه يكون لأجل ذلك الوجل مجتهدا في أن يوفيها حقها في الأداء . وسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة } أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق وهو على ذلك يخاف الله تعالى ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : «لا يا ابنة الصديق ، ولكن هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله تعالى » .

واعلم أن ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن ، لأن الصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز عما لا ينبغي .

والصفة الثانية : دلت على ترك الرياء في الطاعات .

والصفة الثالثة : دلت على أن المستجمع لتلك الصفات الثلاثة يأتي بالطاعات مع الوجل والخوف من التقصير ، وذلك هو نهاية مقامات الصديقين رزقنا الله سبحانه الوصول إليها ، فإن قيل : أفتقولون إن قوله : { وقلوبهم وجلة } يرجع إلى يؤتون ، أو يرجع إلى كل ما تقدم من الخصال ؟ قلنا بل الأولى أن يرجع إلى الكل لأن العطية ليست بذلك أولى من سائر الأعمال ، إذ المراد أن يؤدى ذلك على وجل من تقصيره ، فيكون مبالغا في توفيته حقه ، فأما إذا قرئ { والذين يأتون ما آتوا } فالقول فيه أظهر ، إذ المراد بذلك أي شيء أتوه وفعلوه من تحرز عن معصية وإقدام على إيمان وعمل ، فإنهم يقدمون عليه مع الوجل ، ثم إنه سبحانه بين علة ذلك الوجل وهي علمهم بأنهم إلى ربهم راجعون ، أي للمجازاة والمساءلة ونشر الصحف وتتبع الأعمال ، وأن هناك لا تنفع الندامة ، فليس إلا الحكم القاطع من جهة مالك الملك .