مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَحِفۡظٗا مِّن كُلِّ شَيۡطَٰنٖ مَّارِدٖ} (7)

وأما المطلوب الثالث : وهو قوله { وحفظا من كل شيطان مارد } ففيه بحثان :

البحث الأول : فيما يتعلق باللغة فقوله : { وحفظا } أي وحفظناها ، قال المبرد : إذا ذكرت فعلا ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله ، مثل قولك أفعل وكرامة لأنه لما قال أفعل علم أن الأسماء لا تعطف على الأفعال ، فكان المعنى أفعل ذلك وأكرمك كرامة ، قال ابن عباس يريد حفظ السماء بالكواكب و { من كل شيطان مارد } يريد الذي تمرد على الله قيل إنه الذي لا يتمكن منه ، وأصله من الملاسة ومنه قوله : { صرح ممرد } ومنه الأمرد : وذكرنا تفسير المارد عند قوله : { مردوا على النفاق } .

البحث الثاني : فيما يتعلق بالمباحث العقلية في هذا الموضع ، فنقول الاستقصاء فيه مذكور في قوله تعالى : { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين } [ الملك : 5 ] قال المفسرون الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء فربما سمعوا كلام الملائكة وعرفوا به ما سيكون من الغيوب ، وكانوا يخبرونهم به ويوهمونهم أنهم يعلمون الغيب فمنعهم الله تعالى من الصعود إلى قرب السماء بهذه الشهب فإنه تعالى يرميهم بها فيحرقهم بها ، وبقي ههنا سؤالات :

السؤال الأول : هذه الشهب هل هي من الكواكب التي زين الله السماء بها أم لا ؟ والأول باطل لأن هذه الشهب تبطل وتضمحل فلو كانت هذه الشهب تلك الكواكب الحقيقية لوجب أن يظهر نقصان كثير من أعداد كواكب السماء ، ومعلوم أن هذا المعنى لم يوجد البتة فإن أعداد كواكب السماء باقية في حالة واحدة من غير تغير البتة ، وأيضا فجعلها رجوما للشياطين مما يوجب وقوع النقصان في زينة السماء فكأن الجمع بين هذين المقصودين كالمتناقض ، وأما القسم الثاني : وهو أن يقال إن هذه الشهب جنس آخر غير الكواكب المركوزة في الفلك فهذا أيضا مشكل لأنه تعالى قال في سورة : { تبارك الذي بيده الملك } [ الملك : 1 ] ، { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين } [ الملك : 5 ] فالضمير في قوله : { وجعلناها } عائد إلى المصابيح ، فوجب أن تكون تلك المصابيح هي الرجوم بأعيانها من غير تفاوت ، والجواب أن هذه الشهب غير تلك الثواقب الباقية ، وأما قوله تعالى : { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين } [ الملك : 5 ] فنقول كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصابيح لأهل الأرض إلا أن تلك المصابيح منها باقية على وجه الدهر آمنة من التغير والفساد ، ومنها ما لا يكون كذلك ، وهي هذه الشهب التي يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوما للشياطين ، وبهذا التقدير فقد زال الإشكال ، والله أعلم .

السؤال الثاني : كيف يجوز أن تذهب الشياطين إلى حيث يعلمون بالتجويز ، أن الشهب تحرقهم ولا يصلون إلى مقصودهم البتة ، وهل يمكن أن يصدر مثل هذا الفعل عن عاقل ، فكيف من الشياطين الذين لهم مزية في معرفة الحيل الدقيقة والجواب : أن حصول هذه الحالة ليس له موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه ، وإنما يمنعون من المصير إلى مواضع الملائكة ومواضعها مختلفة ، فربما صاروا إلى موضع تصيبهم فيه الشهب ، وربما صاروا إلى غيره ولا يصادفون الملائكة فلا تصيبهم الشهب ، فلما هلكوا في بعض الأوقات ، وسلموا في بعض الأوقات ، جاز أن يصيروا إلى مواضع يغلب على ظنونهم أنه لا تصيبهم الشهب فيها ، كما يجوز فيمن يسلك البحر أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه حصول النجاة ، هذا ما ذكره أبو علي الجبائي من الجواب عن هذا السؤال في تفسيره . ولقائل أن يقول : إنهم إذا صعدوا فإما أن يصلوا إلى مواضع الملائكة ، أو إلى غير تلك المواضع ، فإن وصلوا إلى مواضع الملائكة احترقوا ، وإن وصلوا إلى غير مواضع الملائكة لم يفوزوا بمقصودهم أصلا ، فعلى كلا التقديرين المقصود غير حاصل ، إذا حصلت هذه التجربة وثبت بالاستقراء أن الفوز بالمقصود محال وجب أن يمتنعوا عن هذا العمل وأن لا يقدموا عليه أصلا بخلاف حال المسافرين في البحر ، فإن الغالب عليهم السلامة والفوز بالمقصود ، أما ههنا فالشيطان الذي يسلم من الاحتراق إنما يسلم إذا لم يصل إلى مواضع الملائكة ، وإذا لم يصل إلى تلك المواضع لم يفز بالمقصود ، فوجب أن لا يعود إلى هذا العمل البتة ، والأقرب في الجواب أن نقول هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة ، فلعلها لا تشتهر بسبب كونها نادرة بين الشياطين ، والله أعلم .

السؤال الثالث : قالوا : دلت التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلا قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم بزمان طويل ذكروا ذلك وتكلموا في سبب حدوثه ، إذا ثبت أن ذلك كان موجودا قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم امتنع حمله على مجيء النبي صلى الله عليه وسلم ، أجاب القاضي بأن الأقرب أن هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي صلى الله عليه وسلم لكنها كثرت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فصارت بسبب الكثرة معجزة .

السؤال الرابع : الشيطان مخلوق من النار ، قال تعالى حكاية عن إبليس { خلقتني من نار } [ الأعراف : 12 ] وقال : { والجان خلقناه من قبل من نار السموم } ولهذا السبب يقدر على الصعود إلى السموات ، وإذا كان كذلك فكيف يعقل إحراق النار بالنار ؟ والجواب يحتمل أن الشياطين وإن كانوا من النيران إلا أنها نيران ضعيفة ، فإن وصلت نيران الشهب إليهم ، وتلك النيران أقوى حالا منهم لا جرم صار الأقوى مبطلا للأضعف ، ألا ترى أن السراج الضعيف إذا رجع في النار القوية فإنه ينطفئ فكذلك ههنا .

السؤال الخامس : أن مقر الملائكة هو السطح الأعلى من الفلك ، والشياطين لا يمكنهم الوصول إلا إلى الأقرب من السطح الأسفل من الفلك ، فيبقى جرم الفلك مانعا من وصول الشياطين إلى القرب من الملائكة ، ولعل الفلك عظيم المقدار دفع حصول هذا المانع العظيم ، كيف يعقل أن تسمع الشياطين كلام الملائكة ، فإن قلتم إن الله تعالى يقوي سمع الشيطان حتى يسمع كلام الملائكة ، فنقول فعلى هذا التقدير إذا كان الله تعالى يقوي سمع الشيطان حتى يسمع كلام الملائكة ، وجب أن لا ينفي سمع الشيطان ، وإن كان لا يريد منع الشيطان من العمل فما الفائدة في رميه بالرجوم ؟ فالجواب : مذهبنا أن أفعال الله تعالى غير معللة ، فيفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ، ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله ، فهذا ما يتعلق بمباحث هذا الباب ، وإذا أضيف ما كتبناه ههنا إلى ما كتبناه في سورة الملك ، وفي سائر الآيات المشتملة على هذه المسألة بلغ تمام الكفاية في هذا الباب ، والله أعلم .