وأما المطلوب الثالث : وهو قوله { وحفظا من كل شيطان مارد } ففيه بحثان :
البحث الأول : فيما يتعلق باللغة فقوله : { وحفظا } أي وحفظناها ، قال المبرد : إذا ذكرت فعلا ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله ، مثل قولك أفعل وكرامة لأنه لما قال أفعل علم أن الأسماء لا تعطف على الأفعال ، فكان المعنى أفعل ذلك وأكرمك كرامة ، قال ابن عباس يريد حفظ السماء بالكواكب و { من كل شيطان مارد } يريد الذي تمرد على الله قيل إنه الذي لا يتمكن منه ، وأصله من الملاسة ومنه قوله : { صرح ممرد } ومنه الأمرد : وذكرنا تفسير المارد عند قوله : { مردوا على النفاق } .
البحث الثاني : فيما يتعلق بالمباحث العقلية في هذا الموضع ، فنقول الاستقصاء فيه مذكور في قوله تعالى : { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين } [ الملك : 5 ] قال المفسرون الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء فربما سمعوا كلام الملائكة وعرفوا به ما سيكون من الغيوب ، وكانوا يخبرونهم به ويوهمونهم أنهم يعلمون الغيب فمنعهم الله تعالى من الصعود إلى قرب السماء بهذه الشهب فإنه تعالى يرميهم بها فيحرقهم بها ، وبقي ههنا سؤالات :
السؤال الأول : هذه الشهب هل هي من الكواكب التي زين الله السماء بها أم لا ؟ والأول باطل لأن هذه الشهب تبطل وتضمحل فلو كانت هذه الشهب تلك الكواكب الحقيقية لوجب أن يظهر نقصان كثير من أعداد كواكب السماء ، ومعلوم أن هذا المعنى لم يوجد البتة فإن أعداد كواكب السماء باقية في حالة واحدة من غير تغير البتة ، وأيضا فجعلها رجوما للشياطين مما يوجب وقوع النقصان في زينة السماء فكأن الجمع بين هذين المقصودين كالمتناقض ، وأما القسم الثاني : وهو أن يقال إن هذه الشهب جنس آخر غير الكواكب المركوزة في الفلك فهذا أيضا مشكل لأنه تعالى قال في سورة : { تبارك الذي بيده الملك } [ الملك : 1 ] ، { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين } [ الملك : 5 ] فالضمير في قوله : { وجعلناها } عائد إلى المصابيح ، فوجب أن تكون تلك المصابيح هي الرجوم بأعيانها من غير تفاوت ، والجواب أن هذه الشهب غير تلك الثواقب الباقية ، وأما قوله تعالى : { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين } [ الملك : 5 ] فنقول كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصابيح لأهل الأرض إلا أن تلك المصابيح منها باقية على وجه الدهر آمنة من التغير والفساد ، ومنها ما لا يكون كذلك ، وهي هذه الشهب التي يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوما للشياطين ، وبهذا التقدير فقد زال الإشكال ، والله أعلم .
السؤال الثاني : كيف يجوز أن تذهب الشياطين إلى حيث يعلمون بالتجويز ، أن الشهب تحرقهم ولا يصلون إلى مقصودهم البتة ، وهل يمكن أن يصدر مثل هذا الفعل عن عاقل ، فكيف من الشياطين الذين لهم مزية في معرفة الحيل الدقيقة والجواب : أن حصول هذه الحالة ليس له موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه ، وإنما يمنعون من المصير إلى مواضع الملائكة ومواضعها مختلفة ، فربما صاروا إلى موضع تصيبهم فيه الشهب ، وربما صاروا إلى غيره ولا يصادفون الملائكة فلا تصيبهم الشهب ، فلما هلكوا في بعض الأوقات ، وسلموا في بعض الأوقات ، جاز أن يصيروا إلى مواضع يغلب على ظنونهم أنه لا تصيبهم الشهب فيها ، كما يجوز فيمن يسلك البحر أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه حصول النجاة ، هذا ما ذكره أبو علي الجبائي من الجواب عن هذا السؤال في تفسيره . ولقائل أن يقول : إنهم إذا صعدوا فإما أن يصلوا إلى مواضع الملائكة ، أو إلى غير تلك المواضع ، فإن وصلوا إلى مواضع الملائكة احترقوا ، وإن وصلوا إلى غير مواضع الملائكة لم يفوزوا بمقصودهم أصلا ، فعلى كلا التقديرين المقصود غير حاصل ، إذا حصلت هذه التجربة وثبت بالاستقراء أن الفوز بالمقصود محال وجب أن يمتنعوا عن هذا العمل وأن لا يقدموا عليه أصلا بخلاف حال المسافرين في البحر ، فإن الغالب عليهم السلامة والفوز بالمقصود ، أما ههنا فالشيطان الذي يسلم من الاحتراق إنما يسلم إذا لم يصل إلى مواضع الملائكة ، وإذا لم يصل إلى تلك المواضع لم يفز بالمقصود ، فوجب أن لا يعود إلى هذا العمل البتة ، والأقرب في الجواب أن نقول هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة ، فلعلها لا تشتهر بسبب كونها نادرة بين الشياطين ، والله أعلم .
السؤال الثالث : قالوا : دلت التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلا قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم بزمان طويل ذكروا ذلك وتكلموا في سبب حدوثه ، إذا ثبت أن ذلك كان موجودا قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم امتنع حمله على مجيء النبي صلى الله عليه وسلم ، أجاب القاضي بأن الأقرب أن هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي صلى الله عليه وسلم لكنها كثرت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فصارت بسبب الكثرة معجزة .
السؤال الرابع : الشيطان مخلوق من النار ، قال تعالى حكاية عن إبليس { خلقتني من نار } [ الأعراف : 12 ] وقال : { والجان خلقناه من قبل من نار السموم } ولهذا السبب يقدر على الصعود إلى السموات ، وإذا كان كذلك فكيف يعقل إحراق النار بالنار ؟ والجواب يحتمل أن الشياطين وإن كانوا من النيران إلا أنها نيران ضعيفة ، فإن وصلت نيران الشهب إليهم ، وتلك النيران أقوى حالا منهم لا جرم صار الأقوى مبطلا للأضعف ، ألا ترى أن السراج الضعيف إذا رجع في النار القوية فإنه ينطفئ فكذلك ههنا .
السؤال الخامس : أن مقر الملائكة هو السطح الأعلى من الفلك ، والشياطين لا يمكنهم الوصول إلا إلى الأقرب من السطح الأسفل من الفلك ، فيبقى جرم الفلك مانعا من وصول الشياطين إلى القرب من الملائكة ، ولعل الفلك عظيم المقدار دفع حصول هذا المانع العظيم ، كيف يعقل أن تسمع الشياطين كلام الملائكة ، فإن قلتم إن الله تعالى يقوي سمع الشيطان حتى يسمع كلام الملائكة ، فنقول فعلى هذا التقدير إذا كان الله تعالى يقوي سمع الشيطان حتى يسمع كلام الملائكة ، وجب أن لا ينفي سمع الشيطان ، وإن كان لا يريد منع الشيطان من العمل فما الفائدة في رميه بالرجوم ؟ فالجواب : مذهبنا أن أفعال الله تعالى غير معللة ، فيفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ، ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله ، فهذا ما يتعلق بمباحث هذا الباب ، وإذا أضيف ما كتبناه ههنا إلى ما كتبناه في سورة الملك ، وفي سائر الآيات المشتملة على هذه المسألة بلغ تمام الكفاية في هذا الباب ، والله أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.