مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لَّا يَسَّمَّعُونَ إِلَى ٱلۡمَلَإِ ٱلۡأَعۡلَىٰ وَيُقۡذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٖ} (8)

وأما قوله : { لا يسمعون إلى الملإ الأعلى } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم { لا يسمعون } بتشديد السين والميم وأصله يتسمعون ، فأدغمت التاء في السين لاشتراكهما في الهمس ، والتسمع تطلب السماع يقال تسمع سمع أو لم يسمع ، والباقون بتخفيف السين ، واختار أبو عبيد التشديد في يسمعون ، قال : لأن العرب تقول تسمعت إلى فلان ويقولون سمعت فلانا ، ولا يكادون يقولون سمعت إلى فلان ، وقيل في تقوية هذه القراءة إذا نفى التسمع ، فقد نفى سمعه ، وحجة القراءة الثانية قوله تعالى : { إنهم عن السمع لمعزولون } وروى مجاهد عن ابن عباس : أن الشياطين يسمعون إلى الملأ الأعلى ، ثم يمنعون فلا يسمعون ، وللأولين أن يجيبوا فيقولون التنصيص على كونهم معزولين عن السمع لا يمنع من كونهم معزولين أيضا عن التسمع بدلالة هذه الآية ، بل هو أقوى في ردع الشياطين ومنعهم من استماع أخبار السماء ، فإن الذي منع من الاستماع فبأن يكون ممنوعا من السمع أولى .

المسألة الثانية : الفرق بين قولك سمعت حديث فلان ، وبين قولك سمعت إلى حديثه ، بأن قولك سمعت حديثه يفيد الإدراك ، وسمعت إلى حديثه يفيد الإصغاء مع الإدراك .

المسألة الثالثة : في قوله : { لا يسمعون إلى الملإ الأعلى } قولان الأول : وهو المشهور أن تقدير الكلام لئلا يسمعوا ، فلما حذف الناصب عاد الفعل إلى الرفع كما قال : { يبين الله لكم أن تضلوا } وكما قال : { رواسى أن تميد بكم } قال صاحب «الكشاف » : حذف أن واللام كل واحد منهما جائز بانفراده . أما اجتماعهما فمن المنكرات التي يجب صوت القرآن عنها والقول الثاني : وهو الذي اختاره صاحب «الكشاف » أنه كلام مبتدأ منقطع عما قبله ، وهو حكاية حال المسترقة للسمع وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة ويتسمعوا وهم مقذوفون بالشهب ، مدحورون عن ذلك المقصود .

المسألة الرابعة : الملأ الأعلى الملائكة لأنهم يسكنون السموات . وأما الإنس والجن فهم الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض .

واعلم أنه تعالى وصف أولئك الشياطين بصفات ثلاثة :

الأولى : أنهم لا يسمعون .