مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّ إِلَٰهَكُمۡ لَوَٰحِدٞ} (4)

المسألة الثالثة : للناس في هذا الموضع قولان الأول : قول من يقول المقسم به ههنا خالق هذه الأشياء لا أعيان هذه الأشياء ، واحتجوا عليه بوجوه الأول : أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلف بغير الله فكيف يليق بحكمة الله أن يحلف بغير الله والثاني : أن الحلف بالشيء في مثل هذا الموضع تعظيم عظيم للمحلوف به ، ومثل هذا التعظيم { والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها } ، والقول الثاني : قول من يقول إن القسم واقع بأعيان هذه الأشياء واحتجوا عليه بوجوه الأول : أن القسم وقع بهذه الأشياء بحسب ظاهر اللفظ فالعدول عنه خلال الدليل والثاني : أنه تعالى قال : { والسماء وما بناها } فعلق لفظ القسم بالسماء ، ثم عطف عليه القسم بالباني للسماء ، فلو كان المراد من القسم بالسماء القسم بمن بنى السماء لزم التكرار في موضع واحد وأنه لا يجوز الثالث : أنه لا يبعد أن تكون الحكمة في قسم من الله تعالى بهذه الأشياء التنبيه على شرف ذواتها وكمال حقائقها ، لا سيما إذا حملنا هذه الألفاظ على الملائكة فإنه تكون الحكمة في القسم بها التنبيه على جلالة درجاتها وكمال مراتبها ، والله أعلم ، فإن قيل ذكر الحلف في هذا الموضع غير لائق وبيانه من وجوه الأول : أن المقصود من هذا القسم إما إثبات هذا المطلوب عند المؤمن أو عند الكافر والأول باطل لأن المؤمن مقر به سواء حصل الحلف أو لم يحصل ، فهذا الحلف عديم الفائدة على كل التقديرات الثاني : أنه تعالى حلف في أول هذه السورة على أن الإله واحد ، وحلف في أول سورة والذاريات على أن القيامة حق فقال : { والذاريات ذروا } إلى قوله : { إنما توعدون لصادق * وإن الدين لواقع } وإثبات هذه المطالب العالية الشريفة على المخالفين من الدهرية وأمثالهم بالحلف واليمين لا يليق بالعقلاء ، والجواب من وجوه الأول : أنه تعالى قرر التوحيد وصحة البعث والقيامة في سائر السور بالدلائل اليقينية ، فلما تقدم ذكر تلك الدلائل لم يبعد تقريرها فذكر القسم تأكيدا لما تقدم لا سيما والقرآن إنما أنزل بلغة العرب وإثبات المطالب بالحلف واليمين طريقة مألوفة عند العرب .

والوجه الثاني : في الجواب أنه تعالى لما أقسم بهذه الأشياء على صحة قوله تعالى : { إن إلهكم لواحد } ذكر عقيبه ما هو كالدليل اليقيني في كون الإله واحدا ، وهو قوله تعالى : { رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق } وذلك لأنه تعالى بين في قوله : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] أن انتظام أحوال السموات والأرض يدل على أن الإله واحد ، فههنا لما قال : { إن إلهكم لواحد } أردفه بقوله : { رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق } كأنه قيل قد بينا أن النظر في انتظام هذا العالم دل على كون الإله واحدا فتأملوا في ذلك الدليل ليحصل لكم العلم بالتوحيد الوجه الثالث : في الجواب أن المقصود من هذا الكلام الرد على عبدة الأصنام في قولهم بأنها آلهة فكأنه قيل هذا المذهب قد بلغ في السقوط والركاكة إلى حيث يكفي في إبطاله مثل هذه الحجة ، والله أعلم .