مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ وَمَا تَعۡمَلُونَ} (96)

المسألة الثانية : احتج جمهور الأصحاب بقوله : { والله خلقكم وما تعملون } على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فقال النحويون : اتفقوا على أن لفظ ما مع ما بعده في تقدير المصدر فقوله : { وما تعملون } معناه وعملكم ، وعلى هذا التقدير صار معنى الآية والله خلقكم وخلق عملكم ، فإن قيل هذه الآية حجة عليكم من وجوه الأول : أنه تعالى قال : { أتعبدون ما تنحتون } أضاف العبادة والنحت إليهم إضافة الفعل إلى الفاعل ولو كان ذلك واقعا بتخليق الله لاستحال كونه فعلا للعبد الثاني : أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية توبيخا لهم على عبادة الأصنام ، لأنه تعالى بين أنه خالقهم وخالق لتلك الأصنام والخالق هو المستحق للعبادة دون المخلوق ، فلما تركوا عبادته سبحانه وهو خالقهم وعبدوا الأصنام لا جرم أنه سبحانه وتعالى وبخهم على هذا الخطأ العظيم فقال : { أتعبدون ما تنحتون ، والله خلقكم وما تعملون } ولو لم يكونوا فاعلين لأفعالهم لما جاز توبيخهم عليها سلمنا أن هذه الآية ليست حجة عليكم لكن لا نسلم أنها حجة لكم ، قوله لفظة ما مع ما بعدها في تقدير المصدر ، قلنا هذا ممنوع وبيانه أن سيبويه والأخفش اختلفا في أنه هل يجوز أن يقال أعجبني ما قمت أي قيامك فجوزه سيبويه ومنعه الأخفش وزعم أن هذا لا يجوز إلا في الفعل المتعدي وذلك يدل على أن ما مع ما بعدها في تقدير المفعول عند الأخفش ، سلمنا أن ذلك قد يكون بمعنى المصدر ، لكنه أيضا قد يكون بمعنى المفعول ويدل عليه وجوه الأول : قوله : { أتعبدون ما تنحتون } والمراد بقوله : { ما تنحتون } المنحوت لا النحت لأنهم ما عبدوا النحت وإنما عبدوا المنحوت فوجب أن يكون المراد بقوله : { ما تعملون } المعمول لا العمل حتى يكون كل واحد من هذين اللفظين على وفق الآخر والثاني : أنه تعالى قال : { فإذا هي تلقف ما يأفكون } وليس المراد أنها تلقف نفس الإفك بل أراد العصي والحبال التي هي متعلقات ذلك الإفك فكذا ههنا الثالث : أن العرب تسمي محل العمل عملا يقال في الباب والخاتم هذا عمل فلان والمراد محل عمله فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن لفظة ما مع بعدها كما تجيء بمعنى المصدر فقد تجيء أيضا بمعنى المفعول فكان حمله ههنا على المفعول أولى لأن المقصود في هذه الآية تزييف مذهبهم في عبادة الأصنام لا بيان أنهم لا يوجدون أفعال أنفسهم ، لأن الذي جرى ذكره في أول الآية إلى هذا الموضع هو مسألة عبادة الأصنام لا خلق الأعمال ، واعلم أن هذه السؤالات قوية وفي دلائلنا كثيرة ، فالأولى ترك الاستدلال بهذه الآية ، والله أعلم .