الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ وَمَا تَعۡمَلُونَ} (96)

{ والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } يعني خلقكم وخلق ما تعملونه من الأصنام ، كقوله : { بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السموات والأرض الذى فطَرَهُنَّ } [ الأنبياء : 56 ] أي فطر الأصنام .

فإن قلت : كيف يكون الشيء الواحد مخلوقاً لله معمولاً لهم ، حيث أوقع خلقه وعملهم عليها جميعاً ؟ قلت : هذا كما يقال : عمل النجار الباب والكرسي ، وعمل الصائغ السوار والخلخال ، والمراد عمل أشكال هذه الأشياء وصورها دون جواهرها ، والأصنام جواهر وأشكال ، فخالق جواهرها الله ، وعاملوا أشكالها الذين يشكلونها بنحتهم وحذفهم بعض أجزائها ، حتى يستوي التشكيل الذي يريدونه .

فإن قلت : فما أنكرت أن تكون ما مصدرية لا موصولة ، ويكون المعنى : والله خلقكم وعملكم ، كما تقول المجبرة ؟ قلت ؛ أقرب ما يبطل به هذا السؤال بعد بطلانه بحجج العقل والكتاب : أن معنى الآية يأباه إباء جلياً ، وينبو عنه نبوّاً ظاهراً ، وذلك أن الله عزّ وجلّ قد احتج عليهم بأنّ العابد والمعبود جميعاً خلق الله ، فكيف يعبد المخلوق المخلوق ، على أن العابد منهما هو الذي عمل صورة المعبود وشكله ، ولولاه لما قدر أن يصوّر نفسه ويشكلها ، ولو قلت : والله خلقكم وخلق عملكم ، ولم يكن محتجاً عليهم ولا كان لكلامك طباق . وشيء آخر : وهو أن قوله : { وَمَا تَعْمَلُونَ } ترجمة عن قوله : { مَا تَنْحِتُونَ } و ( ما ) في { مَا تَنْحِتُونَ } موصولة لا مقال فيها فلا يعدل بها عن أختها إلاّ متعسف متعصب لمذهبه ، من غير نظر في علم البيان ، ولا تبصر لنظم القرآن .

فإن قلت : اجعلها موصولة حتى لا يلزمني ما ألزمت ، وأريد : وما تعملونه من أعمالكم . قلت : بل الإلزامان في عنقك لا يفكهما إلاّ الإذعان للحق ، وذلك أنك جعلتها موصولة ، فإنك في إرادتك بها العمل غير محتج على المشركين ، كحالك وقد جعلتها مصدرية ، وأيضاً فأنك قاطع بذلك الصلة بين ما تعملون وما تنحتون ، حتى تخالف بين المرادين بهما ؛ فتزيد بما تنحتون : الأعيان التي هي الأصنام ، وبما تعملون : المعاني التي هي الأعمال ؛ وفي ذلك فك النظم وتبتيره ؛ كما إذا جعلتها مصدرية .