اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ وَمَا تَعۡمَلُونَ} (96)

والجملة من قوله : { والله خَلَقَكُمْ } حال . ومعناها حسن أي أتعبدون الأصنام على حالة تُنَافِي ذلك وهي أن الله خالقكم وخالقهم جميعها ، ويجوز{[47249]} أن تكون مستأنفة .

فصل

دلت الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن النحويين اتفقوا على أن لفظ ( ما ) مع ما بعده في تقدير المصدر فقوله{[47250]} : { وَمَا تَعْمَلُونَ } معناه وعملكم ، وعلى هذا فيصير معنى الآية : والله خلقكم وخلق عملكم .

فإن قيل : هذه الآية حجة عليكم من وجوه :

الأول : أنه تعالى قال : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } أضاف العبادة والنحت إليهم إضافة الفِعل إلى الفاعل ولو كان ذلك دافعاً بتخليق الله لاستحال كونه فعلاً ( للعبد ) . {[47251]}

الثاني : أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية توبيخاً لهم على عبادة الأصنام ؛ لأنه تعالى لما ذكر هذه الآية بين أنه خالقهم وخالق لتلك الأصنام ، والخالق هو المستحق للعبادة دون المخلوق ، فلما تركوا عبادته - سبحانه وتعالى - وهو خالقهم وعبدوا الأصنام لا جَرَمَ أنه سبحانه وبَّخَهُمْ على هذا الخطأ العظيم فقال : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُون والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } ولو لم يكونوا فاعلين لأعمالهم لما جاز توبيخهم عليها سلمنا أن هذه الآية ليست حجة عليكم ولكن لا نسلم أنها حجة لكم فقولكم : لفظ ما مع ما بعدها في تقدير المصدر قلنا : ممنوع لأن سيبويه والأخفش اختلفا هل يجوز أن يقال : أعْجَبَنِي مَا قُمْتَ أي قيامُكَ ، فجوزه سيبويه{[47252]} ومنعه الأخفش ، وزعم أن هذا لا يجوز إلا في الفعل المتعدي وذلك يدل على أن ما مع ما بعده في تقدير المفعول{[47253]} عند الأخفش سَلَّمنا أن ذلك قد يكون بمعنى المصدر لكنه أيضاً قد يكون بمعنى المفعول . ويدل عليه وجوه{[47254]} :

الأول : قوله : { أتعبدون ما تنحتون } والمراد بقوله : «ما تنحتون » المنحوت لا النحت لأنهم ما عبدوا النحت فوجب أن يكون المراد بقوله : { وَمَا تَعْمَلُونَ } المعمول لا العمل حتى يكون كُلُّ واحدٍ من هذين اللفظين على وَفْقِ الآخر .

الثاني : أنه تعالى قال : { فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } [ الأعراف : 117 ] وليس المراد أنها تلقف نفس الإفك بل أراد العُصيِّ والحبَال التي هي متعلقات ذلك الإفك فكذا ههنا .

الثالث : إن العرب تسمي محلّ العمل عملاً ، يقال في الباب والخاتم : هذا عملُ فُلانٍ والمراد محل عمله فثبت بهذه الوجوه أن لفظ ( ما ){[47255]} مع ما بعده كما يجيء بمعنى المصدر قد يجيء أيضاً بمعنى المفعول فكان حمله ههنا على المفعول أولى ؛ لأن المقصود في الآية تزييفُ مذهبهم في عبادة الأصنام لا بيان أنهم لا يوجدون أفعال أنفسهم لأن الذي جرى ذكره من أول الآية إلى هذا الموضع فهو مسألة عبادة الأصنام لا خلق الأعمال{[47256]} . قال ابن الخطيب : و ( اعلم{[47257]} أن ) هذه ( ال ) سُّؤَالاَتِ قوية فالأولى ترك الاستدلال بهذه الآية .


[47249]:قاله السمين أيضا في الدر 4/562 فإن كانت حالا فهي في محل نصب، وإن كانت مستأنفة فلا محل لها من الإعراب كما هو العهد والعرف.
[47250]:تصحيح من السياق والرازي ففي النسختين (بقوله).
[47251]:ما بين القوسين سقط من ب.
[47252]:قال في الكتاب 1/367: "ومثل ذلك أيضا من الكلام فيما حدثنا أبو الخطاب : ما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضر، فما مع الفعل بمنزلة اسم نحو النقصان، والضر كما بعد إلا في ذا الموضع" وقال في 1/410: "ومن ذلك قولهم: ائتني بعد ما تفرغ مما وتفرغ بمنزلة الفراغ وتفرغ صلة". وقال في ص 377 وتقول: أتاني القوم ما عدا زيدا، وأتوني ما خلا زيدا، فما هنا اسم.
[47253]:يقول أبو العباس المبرد في المقتضب 3/200: "فأما اختلاف الأخفش وسيبويه في (ما) إذا كانت والفعل مصدرا فإن سيبويه كان يقول: أعجبني ما صنعت فهو بمنزلة قولك: أعجبني أن قمت... والأخفش يقول: أعجبني ما صنعت أي ما صنعته كما تقول: أعجبني الذي صنعته ولا يجيز: أعجبني ما قمت لأنه لا يتعدى، وقد خلط أي الأخفش فأجاز مثله، والقياس والصواب رأي سيبويه" انظر: المقتضب 3/200.
[47254]:مجيء ما بمعنى المفعول مع ما بعده رأي الإمام الفخر الرازي في تفسيره 26/150. وانظر مقولته تلك في نفس المرجع.
[47255]:سقط من ب.
[47256]:الرازي المرجع السابق.
[47257]:ما بين الأقواس زيادة من تفسير الرازي المشار إليه أعلى.