مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِذۡ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنۡهُمۡۖ قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ خَصۡمَانِ بَغَىٰ بَعۡضُنَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فَٱحۡكُم بَيۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَلَا تُشۡطِطۡ وَٱهۡدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَٰطِ} (22)

ثم قال تعالى : { إذ دخلوا على داوود } والفائدة فيه أنهم ربما تسوروا المحراب وما دخلوا عليه ، فلما قال : { إذ دخلوا عليه } دل على أنهم بعد التسور دخلوا عليه ، قال الفراء : وقد يجاء بإذ مرتين ويكون معناهما كالواحد ، كقولك ضربتك إذ دخلت علي إذ اجترأت ، مع أنه يكون وقت الدخول ووقت الاجتراء واحدا ، ثم قال تعالى : { ففزع منهم } والسبب أن داود عليه السلام لما رآهما قد دخلوا عليه لا من الطريق المعتاد ، علم أنهم إنما دخلوا عليه للشر ، فلا جرم فزع منهم ، ثم قال تعالى : { قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : خصمان خبر مبتدأ محذوف ، أي نحن خصمان .

المسألة الثانية : ههنا قولان الأول : أنهما كانا ملكين نزلا من السماء وأرادا تنبيه داود عليه السلام على قبح العمل الذي أقدم عليه والثاني : أنهما كانا إنسانين دخلا عليه للشر والقتل ، فظنا أنهما يجدانه خاليا ، فلما رأيا عنده جماعة من الخدم اختلقا ذلك الكذب لدفع الشر ، وأما المنكرون لكونهما ملكين فقد احتجوا عليه بأنهما لو كانا ملكين لكانا كاذبين في قولهما { خصمان } فإنه ليس بين الملائكة خصومة ، ولكانا كاذبين في قولهما : { بغى بعضهم على بعض } ، ولكانا كاذبين في قولهما : { إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة } فثبت أنهما لو كانا ملكين كاذبين والكذب على الملك غير جائز لقوله تعالى : { لا يسبقونه بالقول } ولقوله : { ويفعلون ما يؤمرون } أجاب الذاهبون إلى القول الأول عن هذا الكلام بأن قالوا إن الملكين إنما ذكرا هذا الكلام على سبيل ضرب المثل لا على سبيل التحقيق فلم يلزم الكذب ، وأجيب عن هذا الجواب بأن ما ذكرتم يقتضي العدول عن ظاهر اللفظ ، ومعلوم أنه على خلاف الأصل ، أما إذا حملنا الكلام على أن الخصمين كانا رجلين دخلا عليه لغرض الشر ثم وضعا هذا الحديث الباطل ، فحينئذ لزم إسناد الكذب إلى شخصين فاسقين فكان هذا أولى من القول الأول ، والله أعلم ، وأما القائلون بكونهما ملكين فقد احتجوا بوجوه الأول : اتفاق أكثر المفسرين عليه والثاني : أنه أرفع منزلة من أن يتسور عليه آحاد الرعية في حال تعبده فيجب أن يكون ذلك من الملائكة الثالث : أن قوله تعالى : { قالوا لا تخف } كالدلالة على كونهما ملكين لأن من هو من رعيته لا يكاد يقول له مثل ذلك مع رفعة منزلته الرابع : أن قولهما : { ولا تشطط } كالدلالة على كونهما ملكين لأن أحدا من رعيته لا يتجاسر أن يقول له لا تظلم ولا تتجاوز عن الحق ، واعلم أن ضعف هذه الدلائل ظاهر ، ولا حاجة إلى الجواب ، والله أعلم .

المسألة الثالثة : { بغى بعضنا على بعض } أي تعدى وخرج عن الحد يقال بغى الجرح إذا أفرط وجعه وانتهى إلى الغاية ، وقال بغت المرأة إذا زنت ، لأن الزنا كبيرة منكرة ، قال تعالى : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء } ثم قال : { فاحكم بيننا بالحق } معنى الحكم إحكام الأمر في إمضاء تكليف الله عليهما في الواقعة ، ومنه حكمة الدابة لأنها تمنع من الجماح ، ومنه بناء محكم إذا كان قويا ، وقوله : { بالحق } أي بالحكم الحق وهو الذي حكم الله به { ولا تشطط } يقال شط الرجل إذا بعد ، ومنه قوله : شطت الدار إذا بعدت ، قال تعالى : { لقد قلنا إذا شططا } أي قولا بعيدا عن الحق ، فقوله : { ولا تشطط } أي لا تبعد في هذا الحكم عن الحق ، ثم قال : { واهدنا إلى سواء الصراط } وسواء الصراط هو وسطه ، قال تعالى : { فاطلع فرآه في سواء الجحيم } ووسط الشيء أفضله وأعدله ، قال تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } وأقول إنهم عبروا عن المقصود الواحد بثلاث عبارات أولها : قولهم فاحكم بالحق وثانيها : قولهم : { ولا تشطط } وهي نهي عن الباطل وثالثها : قولهم : { واهدنا إلى سواء الصراط } يعني يجب أن يكون سعيك في إيجاد هذا الحق . وفي الاحتراز عن هذا الباطل أن تردنا من الطريق الباطل إلى الطريق الحق ، وهذا مبالغة تامة في تقرير المطلوب .