مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلۡأَصۡفَادِ} (38)

وآخرين عطف على قوله : { كل بناء } وهو بدل الكل من الكل كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية ويغوصون له فيستخرجون اللؤلؤ ، وقوله : { مقرنين } يقال قرنهم في الحبال والتشديد للكثرة { والأصفاد } الأغلال واحدها صفد والصفد العطية أيضا ، قال النابغة :

ولم أعرض أبيت اللعن بالصفد *** . . .

فعلى هذا الصفد القيد فكل من شددته شدا وثيقا فقد صفدته ، وكل من أعطيته عطاء جزيلا فقد أضفدته ، وههنا بحث ، وهو أن هذه الآيات دالة على أن الشياطين لها قوة عظيمة ، وبسبب تلك القوة قدروا على بناء الأبنية القوية التي لا يقدر عليها البشر ، وقدروا على الغوص في البحار ، واحتاج سليمان عليه السلام إلى قيدهم ، ولقائل أن يقول إن هذه الشياطين إما أن تكون أجسادهم كثيفة أو لطيفة ، فإن كان الأول وجب أن يراهم من كان صحيح الحاسة ، إذ لو جاز أن لا نراهم مع كثافة أجسادهم ، فليجز أن تكون بحضرتنا جبال عالية وأصوات هائلة ولا نراها ولا نسمعها ، وذلك دخول في السفسطة ، وإن كان الثاني وهو أن أجسادهم ليست كثيفة ، بل لطيفة رقيقة ، فمثل هذا يمتنع أن يكون موصوفا بالقوة الشديدة ، وأيضا لزم أن تتفرق أجسادهم وأن تتمزق بسبب الرياح القوية وأن يموتوا في الحال ، وذلك يمنع من وصفهم ببناء الأبنية القوية ، وأيضا الجن والشياطين إن كانوا موصوفين بهذه القوة والشدة ، فلم لا يقتلون العلماء والزهاد في زماننا ؟ ولم لا يخربون ديار الناس ؟ مع أن المسلمين مبالغون في إظهار لعنهم وعداوتهم . وحيث لم يحس شيء من ذلك ، علمنا أن القول بإثبات الجن والشياطين ضعيف .

واعلم أن أصحابنا يجوزون أن تكون أجسامهم كثيفة مع أنا لا نراها ، وأيضا لا يبعد أن يقال أجسامهم لطيفة بمعنى عدم اللون ، ولكنها صلبة بمعنى أنها لا تقبل التفرق والتمزق . وأما الجبائي فقد سلم أنها كانت كثيفة الأجسام ، وزعم أن الناس كانوا يشاهدونهم في زمن سليمان ، ثم إنه لما توفي سليمان عليه السلام ، أمات الله أولئك الجن والشياطين ، وخلق نوعا آخر من الجن والشياطين تكون أجسامهم في غاية الرقة ، ولا يكون لهم شيء من القوة ، والموجود في زماننا من الجن والشياطين ليس إلا من هذا الجنس .