أما قوله تعالى : { قال رب اغفر لي } فاعلم أن الذين حملوا الكلام المتقدم على صدور الزلة منه تمسكوا بهذه الآية ، فإنه لولا تقدم الذنب لما طلب المغفرة ، ويمكن أن يجاب عنه بأن الإنسان لا ينفك البتة عن ترك الأفضل والأولى ، وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، ولأنهم أبدا في مقام هضم النفس ، وإظهار الذلة والخضوع ، كما قال صلى الله عليه وسلم :
«إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة » ولا يبعد أن يكون المراد من هذه الكلمة هذا المعنى ، والله أعلم .
ثم قال تعالى : { وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدى } دلت هذه الآية على أنه يجب تقديم مهم الدين على مهم الدنيا ، لأن سليمان طلب المغفرة أولا ثم بعده طلب المملكة . وأيضا الآية تدل على أن طلب المغفرة من الله تعالى سبب لانفتاح أبواب الخيرات في الدنيا ، لأن سليمان طلب المغفرة أولا ثم توسل به إلى طلب المملكة ، ونوح عليه السلام هكذا فعل أيضا لأنه تعالى حكى عنه أنه قال : { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين } وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم : { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك } فإن قيل قوله عليه السلام : { ملكا لا ينبغي لأحد من بعدى } مشعر بالحسد ، والجواب عنه أن القائلين بأن الشيطان استولى على مملكته قالوا معنى قوله لا ينبغي لأحد من بعدي ، هو أن يعطيه الله ملكا لا تقدر الشياطين أن يقوموا مقامه البتة ، فأما المنكرون لذلك فقد أجابوا عنه من وجوه الأول : أن الملك هو القدرة فكان المراد أقدرني على أشياء لا يقدر عليها غيري البتة ، ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نبوتي ورسالتي .
والدليل على صحة هذا الكلام أنه تعالى قال : { فسخرنا له الريح تجرى بأمره رخاء حيث أصاب } فكون الريح جاريا بأمره قدرة عجيبة وملك عجيب ، ولا شك أنه معجزة دالة على نبوته فكان قوله : { هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدى } هو هذا المعنى لأن شرط المعجزة أن لا يقدر غيره على معارضتها ، فقوله : { لا ينبغي لأحد من بعدى } يعني لا يقدر أحد على معارضته والوجه الثاني : في الجواب أنه عليه السلام لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا صائرة إلى الغير بإرث أو بسبب آخر ، فسأل ربه ملكا لا يمكن أن ينتقل منه إلى غيره ، وذلك الذي سأله بقوله : { ملكا لا ينبغي لأحد من بعدى } أي ملكا لا يمكن أن ينتقل عني إلى غيري الوجه الثالث : في الجواب أن الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق من الاحتراز عنها حال عدم القدرة عليها ، فكأنه قال : يا إلهي أعطني مملكة فائقة على ممالك البشر بالكلية ، حتى أحترز عنها مع القدرة عليها ليصير ثوابي أكمل وأفضل الوجه الرابع : من الناس من يقول إن الاحتراز عن لذات الدنيا عسر صعب ، لأن هذه اللذات حاضرة وسعادات الآخرة نسيئة ، والنقد يصعب بيعه بالنسيئة ، فقال سليمان أعطني يا رب مملكة تكون أعظم الممالك الممكنة للبشر ، حتى أني أبقى مع تلك القدرة الكاملة في غاية الاحتراز عنها ليظهر للخلق أن حصول الدنيا لا يمنع من خدمة المولى الوجه الخامس : أن من لم يقدر على الدنيا يبقى ملتفت القلب إليها فيظن أن فيها سعادات عظيمة وخيرات نافعة ، فقال سليمان يا رب العزة أعطني أعظم الممالك حتى يقف الناس على كمال حالها ، فحينئذ يظهر للعقل أنه ليس فيها فائدة وحينئذ يعرض القلب عنها ولا يلتفت إليها ، وأشتغل بالعبودية ساكن النفس غير مشغول القلب بعلائق الدنيا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.