مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّ ٱللَّهَ يُدۡخِلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ} (12)

قوله تعالى : { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم } .

لما بين الله تعالى حال المؤمنين والكافرين في الدنيا بين حالهم في الآخرة وقال إنه يدخل المؤمن الجنة والكافر النار وفيه مسائل :

المسألة الأولى : كثيرا ما يقتصر الله على ذكر الأنهار في وصف الجنة لأن الأنهار يتبعها الأشجار والأشجار تتبعها الثمار ولأنه سبب حياة العالم ، والنار سبب الإعدام ، وللمؤمن الماء ينظر إليه وينتفع به ، وللكافر النار يتقلب فيها ويتضرر بها .

المسألة الثانية : ذكرنا مرارا أن من في قوله { من تحتها الأنهار } يحتمل أن يكون صلة معناه تجري تحتها الأنهار ، ويحتمل أن يكون المراد أن ماءها منها لا يجري إليها من موضع آخر ، فيقال هذا النهر منبعه من أين ؟ يقال من عين كذا من تحت جبل كذا .

المسألة الثالثة : قال : { والذين كفروا يتمتعون } خصهم بالذكر مع أن المؤمن أيضا له التمتع بالدنيا وطيباتها ، نقول من يكون له ملك عظيم ويملك شيئا يسيرا أيضا لا يذكر إلا بالملك العظيم ، يقال في حق الملك العظيم صاحب الضيعة الفلانية ومن لا يملك إلا شيئا يسيرا فلا يذكر إلا به ، فالمؤمن له ملك الجنة فمتاع الدنيا لا يلتفت إليه في حقه والكافر ليس له إلا الدنيا ، ووجه آخر : الدنيا للمؤمن سجن كيف كان ، ومن يأكل في السجن لا يقال إنه يتمتع ، فإن قيل كيف تكون الدنيا سجنا مع ما فيها من الطيبات ؟ نقول للمؤمن في الآخرة طيبات معدة وإخوان مكرمون نسبتها ونسبتهم إلى الدنيا ومن فيها تتبين بمثال ، وهو أن من يكون له بستان فيه من كل الثمرات الطيبة في غاية اللذة وأنهار جارية في غاية الصفاء ودور وغرف في غاية الرفعة وأولاده فيها ، وهو قد غاب عنهم سنين ثم توجه إليهم وهم فيها ، فلما قرب منهم عوق في أجمة فيها من بعض الثمار العفصة والمياه الكدرة ، وفيها سباع وحشرات كثيرة ، فهل يكون حاله فيها كحال مسجون في بئر مظلمة وفي بيت خراب أم لا ؟ وهل يجوز أن يقال له اترك ما هو لك وتعلل بهذه الثمار وهذه الأنهار أم لا ؟ كذلك حال المؤمن ، وأما الكافر فحاله كحال من يقدم إلى القتل فيصبر عليه أياما في مثل تلك الأجمة التي ذكرناها يكون في جنة ، ونسبة الدنيا إلى الجنة والنار دون ما ذكرنا من المثال ، لكنه ينبئ ذا البال ، عن حقيقة الحال .

وقوله تعالى : { كما تأكل الأنعام } يحتمل وجوها ( أحدها ) أن الأنعام يهمها الأكل لا غير والكافر كذلك والمؤمن يأكل ليعمل صالحا ويقوى عليه ( وثانيها ) الأنعام لا تستدل بالمأكول على خالقها والكافر كذلك ( وثالثها ) الأنعام تعلف لتسمن وهي غافلة عن الأمر ، لا تعلم أنها كلما كانت أسمن كانت أقرب إلى الذبح والهلاك ، وكذلك الكافر ويناسب ذلك قوله تعالى : { والنار مثوى لهم } .

المسألة الرابعة : قال في حق المؤمن { إن الله يدخل } بصيغة الوعد ، وقال في حق الكافر { والنار مثوى لهم } بصيغة تنبئ عن الاستحقاق لما ذكرنا أن الإحسان لا يستدعي أن يكون عن استحقاق ، فالمحسن إلى من لم يوجد منه ما يوجب الإحسان كريم ، والمعذب من غير استحقاق ظالم .