مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لِنُرۡسِلَ عَلَيۡهِمۡ حِجَارَةٗ مِّن طِينٖ} (33)

{ لنرسل عليهم حجارة من طين } وقد فسرنا ذلك في العنكبوت ، وقلنا : إن ذلك دليل على وجوب الرمي بالحجارة على اللائط وفيه مسائل :

المسألة الأولى : أي حاجة إلى قوم من الملائكة ، وواحد منهم كان يقلب المدائن بريشة من جناحه ؟ نقول الملك القادر قد يأمر الحقير بإهلاك الرجل الخطير ، ويأمر الرجل الخطير بخدمة الشخص الحقير ، إظهارا لنفاذ أمره ، فحيث أهلك الخلق الكثير بالقمل والجراد والبعوض بل بالريح التي بها الحياة ، كان أظهر في القدرة وحيث أمر آلاف من الملائكة بإهلاك أهل بدر مع قلتهم كان أظهر في نفاذ الأمر .

وفيه فائدة أخرى ، وهي أن من يكون تحت طاعة ملك عظيم ، ويظهر له عدو ويستعين بالملك فيعينه بأكابر عسكره ، يكون ذلك تعظيما منه له وكلما كان العدو أكثر والمدد أوفر كان التعظيم أتم ، لكن الله تعالى أعان لوطا بعشرة ونبينا عليه السلام بخمسة آلاف ، وبين العددين من التفاوت ما لا يخفى وقد ذكرنا نبذا منه في تفسير قوله تعالى : { وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء } .

المسألة الثانية : ما الفائدة في تأكيد الحجارة بكونها من طين ؟ نقول : لأن بعض الناس يسمي البرد حجارة فقوله : { من طين } يدفع ذلك التوهم ، واعلم أن بعض من يدعي النظر يقول لا ينزل من السماء إلا حجارة من طين مدورات على هيئة البرد وهيئة البنادق التي يتخذها الرماة ، قالوا : وسبب ذلك هو أن الإعصار يصعد الغبار من الفلوات العظيمة التي لا عمارة فيها والرياح تسوقها إلى بعض البلاد ، ويتفق وصول ذلك إلى هواء ندي ، فيصير طينا رطبا ، والرطب إذا نزل وتفرق واستدار ، بدليل أنك إذا رميت الماء إلى فوق ثم نظرت إليه رأيته ينزل كرات مدورات كاللآلئ الكبار ، ثم في النزول إذا اتفق أن تضربه النيران التي في الجو ، جعلته حجارة كالآجر المطبوخ ، فينزل فيصيب من قدر الله هلاكه ، وقد ينزل كثيرا في المواضع التي لا عمارة بها فلا يرى ولا يدرى به ، ولهذا قال : { من طين } لأن ما لا يكون من طين كالحجر الذي في الصواعق لا يكون كثيرا بحيث يمطر وهذا تعسف ، ومن يكون كامل العقل يسند الفكر إلى ما قاله ذلك القائل ، فيقول ذلك الإعصار لما وقع فإن وقع بحادث آخر يلزم التسلسل ولا بد من الانتهاء إلى محدث ليس بحادث ، فذلك المحدث لا بد وأن يكون فاعلا مختارا ، والمختار له أن يفعل ما ذكر وله أن يخلق الحجارة من طين على وجه آخر من غير نار ولا غبار ، لكن العقل لا طريق له إلى الجزم بطريق إحداثه وما لا يصل العقل إليه يجب أخذه بالنقل ، والنص ورد به فأخذنا به ولا نعلم الكيفية وإنما المعلوم أن الحجارة التي من طين نزولها من السماء أغرب وأعجب من غيرها ، لأنها في العادة لا بد لها من مكث في النار .