مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَفِرُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۖ إِنِّي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٞ مُّبِينٞ} (50)

ثم قال تعالى : { ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين } أمر بالتوحيد ، وفيه لطائف . ( الأولى ) قوله تعالى : { ففروا } ينبئ عن سرعة الإهلاك كأنه يقول الإهلاك والعذاب أسرع وأقرب من أن يحتمل الحال الإبطاء في الرجوع ، فافزعوا إلى الله سريعا وفروا . ( الثانية ) قوله تعالى : { إلى الله } بيان المهروب إليه ولم يذكر الذي منه الهرب لأحد وجهين ، إما لكونه معلوما وهو هول العذاب أو الشيطان الذي قال فيه : { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا } وإما ليكون عاما كأنه يقول : كل ما عدا الله عدوكم ففروا إليه من كل ما عداه ، وبيانه وهو أن كل ما عداه فإنه يتلف عليك رأس مالك الذي هو العمر ، ويفوت عليك ما هو الحق والخير ، ومتلف رأس المال مفوت الكمال عدو ، وأما إذا فررت إلى الله وأقبلت على الله فهو يأخذ عمرك ولكن يرفع أمرك ويعطيك بقاء لا فناء معه . ( والثالثة ) الفاء للترتيب معناه إذا ثبت أن خالق الزوجين فرد ففروا إليه واتركوا غيره تركا مؤبدا . ( الرابعة ) في تنوع الكلام فائدة وبيانها هو أن الله تعالى قال : { والسماء بنيناها } { والأرض فرشناها } { ومن كل شيء خلقنا } ، ثم جعل الكلام للنبي عليه السلام وقال : { ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين } ولم يقل ففروا إلينا ، وذلك لأن لاختلاف الكلام تأثيرا ، وكذلك لاختلاف المتكلمين تأثيرا ، ولهذا يكثر الإنسان من النصائح مع ولده الذي حاد عن الجادة ، ويجعل الكلام مختلفا ، نوعا ترغيبا ونوعا ترهيبا ، وتنبيها بالحكاية ، ثم يقول لغيره تكلم معه لعل كلامك ينفع ، لما في أذهان الناس أن اختلاف المتكلمين واختلاف الكلام كلاهما مؤثر ، والله تعالى ذكر أنواعا من الكلام وكثيرا من الاستدلالات والآيات وذكر طرفا صالحا من الحكايات ، ثم ذكر كلاما من متكلم آخر هو النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن المفسرين من يقول تقديره فقل لهم ففروا وقوله : { إني لكم منه نذير } إشارة إلى الرسالة .

وفيه أيضا لطائف ( إحداها ) أن الله تعالى بين عظمته بقوله : { والسماء بنيناها } { والأرض فرشناها } وهيبته بقوله : { فنبذناهم في اليم } وقوله تعالى : { أرسلنا عليهم الريح العقيم } وقوله : { فأخذتهم الصاعقة } وفيه إشارة إلى أنه تعالى إذا عذب قدر على أن يعذب بما به البقاء والوجود وهو التراب والماء والهواء والنار ، فحكايات لوط تدل على أن التراب الذي منه الوجود والبقاء إذا أراد الله جعله سبب الفناء والماء كذلك في قوم فرعون والهواء في عاد والنار في ثمود ، ولعل ترتيب الحكايات الأربع للترتيب الذي في العناصر الأربعة وقد ذكرنا في سورة العنكبوت شيئا منه ، ثم إذا أبان عظمته وهيبته قال لرسوله عرفهم الحال وقل أنا رسول بتقديم الآيات وسرد الحكايات فلإردافه بذكر الرسول فائدة . ( ثانيها ) في الرسالة أمور ثلاثة المرسل والرسول والمرسل إليه وهاهنا ذكر الكل ، فقوله : { لكم } إشارة إلى المرسل إليهم وقوله : { منه } إشارة إلى المرسل وقوله : { نذير } بيان للرسول ، وقدم المرسل إليه في الذكر ، لأن المرسل إليه أدخل في أمر الرسالة لأن عنده يتم الأمر ، والملك لو لم يكن هناك من يخالفه أو يوافقه فيرسل إليه نذيرا أو بشيرا لا يرسل وإن كان ملكا عظيما ، وإذا حصل المخالف أو الموافق يرسل وإن كان غير عظيم ، ثم المرسل لأنه متعين وهو الباعث ، وأما الرسول فباختياره ، ولولا المرسل المتعين لما تمت الرسالة ، وأما الرسول فلا يتعين ، لأن للملك اختيار من يشاء من عباده ، فقال : { منه } ثم قال : { نذير } تأخيرا للرسول عن المرسل . ( ثالثها ) قوله : { مبين } إشارة إلى ما به تعرف الرسالة ، لأن كل حادث له سبب وعلامة ، فالرسول هو الذي به تتم الرسالة ، ولا بد له من علامة يعرف بها ، فقوله : { مبين } إشارة إليها وهي إما البرهان والمعجزة .