مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{كَذَّبَتۡ ثَمُودُ بِٱلنُّذُرِ} (23)

ثم بين الله تعالى حال قوم آخرين . فقال :{ كذبت ثمود بالنذر } وقد تقدم تفسيره غير أنه في قصة عاد قال : { كذبت } ولم يقل : بالنذر ، وفي قصة نوح قال : { كذبت قوم نوح بالنذر } فنقول : هذا يؤيد ما ذكرنا من أن المراد بقوله : { كذبت قبلهم قوم نوح } أن عادتهم ومذهبهم إنكار الرسل وتكذيبهم فكذبوا نوحا بناء على مذهبهم وإنما صرح هاهنا لأن كل قوم يأتون بعد قوم وأتاهما رسولان فالمكذب المتأخر يكذب المرسلين جميعا حقيقة والأولون يكذبون رسولا واحدا حقيقة ويلزمهم تكذيب من بعده بناء على ذلك لأنهم لما كذبوا من تقدم في قوله : الله تعالى واحد ، والحشر كائن ، ومن أرسل بعده كذلك قوله ومذهبه لزم منه أن يكذبوه ويدل على هذا أن الله تعالى قال في قوم نوح : { فكذبوه فأنجيناه } وقال في عاد : { وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله } وأما قوله تعالى : { كذبت قوم نوح المرسلين } فإشارة إلى أنهم كذبوا وقالوا ما يفضي إلى تكذيب جميع المرسلين ، ولهذا ذكره بلفظ الجمع المعرف للاستغراق ، ثم إنه تعالى قال هناك عن نوح : { رب إن قومي كذبون } ولم يقل : كذبوا رسلك إشارة إلى ما صدر منهم حقيقة لا أن ما ألزمهم لزمه . إذا عرفت هذا فلما سبق قصة ثمود ذكر رسولين ورسولهم ثالثهم قال : { كذبت ثمود بالنذر } هذا كله إذا قلنا إن النذر جمع نذير بمعنى منذر ، أما إذا قلنا إنها الإنذارات فنقول : قوم نوح وعاد لم تستمر المعجزات التي ظهرت في زمانهم ، وأما ثمود فأنذروا وأخرج لهم ناقة من صخرة وكانت تدور بينهم وكذبوا فكان تكذيبهم بإنذارات وآيات ظاهرة فصرح بها ، وقوله : { فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه } يؤيد الوجه الأول ، لأن من يقول لا أتبع بشرا مثلي وجميع المرسلين من البشر يكون مكذبا للرسل والباء في قوله بالنذر يؤيد الوجه الثاني لأنا بينا أن الله تعالى في تكذيب الرسل عدى التكذيب بغير حرف فقال : كذبوه وكذبوا رسلنا وكذبوا عبدنا وكذبوني وقال : { وكذبوا بآيات ربهم ، وبآياتنا } فعدى بحرف لأن التكذيب هو النسبة إلى الكذب والقائل هو الذي يكون كاذبا حقيقة والكلام والقول يقال فيه كاذب مجازا وتعلق التكذيب بالقائل أظهر فيستغني عن الحرف بخلاف القول ، وقد ذكرنا ذلك وبيناه بيانا شافيا .