مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{تَنزِعُ ٱلنَّاسَ كَأَنَّهُمۡ أَعۡجَازُ نَخۡلٖ مُّنقَعِرٖ} (20)

ثم قال تعالى : { تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر } فيه مسائل :

المسألة الأولى : { تنزع الناس } وصف أو حال ؟ نقول : يحتمل الأمرين جميعا ، إذ يصح أن يقال : أرسل ريحا صرصرا نازعة للناس ، ويصح أن يقال : أرسل الريح نازعة ، فإن قيل : كيف يمكن جعلها حالا ، وذو الحال نكرة ؟ نقول : الأمر هنا أهون منه في قوله تعالى : { ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر } فإنه نكرة ، وأجابوا عنه بأن { ما } موصوفة فتخصصت فحسن جعلها ذات الحال ، فكذلك نقول هاهنا الريح موصوفة بالصرصر ، والتنكير فيه للتعظيم ، وإلا فهي ثلاثة فلا يبعد جعلها ذات حال ، وفيه وجه آخر ، وهو أنه كلام مستأنف على فعل وفاعل ، كما تقول : جاء زيد جذبني ، وتقديره جاء فجذبني ، كذلك هاهنا قال : { إنا أرسلنا عليهم ريحا } فأصبحت { تنزع الناس } ويدل عليه قوله تعالى : { فترى القوم فيها صرعى } فالتاء في قوله : { تنزع الناس } إشارة إلى ما أشار إليه بقوله : { صرعى } وقوله تعالى : { كأنهم أعجاز نخل منقعر } فيه وجوه ( أحدها ) : نزعتهم فصرعتهم : { كأنهم أعجاز نخل } كما قال : { صرعى كأنهم أعجاز نخل } ( ثانيها ) : نزعتهم فهم بعد النزع : كأنهم أعجاز نخل وهذا أقرب ، لأن الانقعار قبل الوقوع ، فكأن الريح تنزع [ الواحد ] وتقعر [ ه ] فينقعر فيقع فيكون صريعا ، فيخلو الموضع عنه فيخوى ، وقوله في الحاقة : { فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية } إشارة إلى حالة بعد الانقعار الذي هو بعد النزع ، وهذا يفيد أن الحكاية هاهنا مختصرة حيث لم يشر إلى صرعهم وخلو منازلهم عنهم بالكلية ، فإن حال الانقعار لا يحصل الخلو التام إذ هو مثل الشروع في الخروج والأخذ فيه ( ثالثها ) : تنزعهم نزعا بعنف كأنهم أعجاز نخل تقعرهم فينقعروا إشارة إلى قوتهم وثباتهم على الأرض ، وفي المعنى وجوه ( أحدها ) : أنه ذكر ذلك إشارة إلى عظمة أجسادهم وطول أقدادهم ( ثانيها ) : ذكره إشارة إلى ثباتهم في الأرض ، فكأنهم كانوا يعملون أرجلهم في الأرض ويقصدون المنع به على الريح و( ثالثها ) : ذكره إشارة إلى يبسهم وجفافهم بالريح ، فكانت تقتلهم وتحرقهم ببردها المفرط فيقعون كأنهم أخشاب يابسة .

المسألة الثانية : قال هاهنا : { منقعر } فذكر النخل ، وقال في الحاقة : { كأنهم أعجاز نخل خاوية } فأنثها ، قال المفسرون : في تلك السورة كانت أواخر الآيات تقتضي ذلك لقوله : { مستمر ، ومنهمر ، ومنتشر } وهو جواب حسن ، فإن الكلام كما يزين بحسن المعنى يزين بحسن اللفظ ، ويمكن أن يقال : النخل لفظه لفظ الواحد ، كالبقل والنمل ومعناه معنى الجمع ، فيجوز أن يقال فيه : نخل منقعر ومنقعرة ومنقعرات ، ونخل خاو وخاوية وخاويات ونخل باسق وباسقة وباسقات ، فإذا قال قائل : منقعر أو خاو أو باسق جرد النظر إلى اللفظ ولم يراع جانب المعنى ، وإذا قال : منقعرات أو خاويات أو باسقات جرد النظر إلى المعنى ولم يراع جانب اللفظ ، وإذا قال : منقعرة أو خاوية أو باسقة جمع بين الاعتبارين من حيث وحدة اللفظ ، وربما قال : منقعرة على الإفراد من حيث اللفظ ، وألحق به تاء التأنيث التي في الجماعة إذا عرفت هذا فنقول : ذكر الله تعالى لفظ النخل في مواضع ثلاثة ، ووصفها على الوجوه الثلاثة ، فقال : { والنخل باسقات } فإنها حال منها وهي كالوصف ، وقال : { نخل خاوية } وقال : { نخل منقعر } فحيث قال : { منقعر } كان المختار ذلك لأن المنقعر في حقيقة الأمر كالمفعول ، لأنه الذي ورد عليه القعر فهو مقعور ، والخاو والباسق فاعل ومعناه إخلاء ما هو مفعول من علامة التأنيث أولا ، كما تقول : امرأة كفيل ، وامرأة كفيلة ، وامرأة كبير ، وامرأة كبيرة . وأما الباسقات ، فهي فاعلات حقيقة ، لأن البسوق أمر قام بها ، وأما الخاوية ، فهي من باب حسن الوجه ، لأن الخاوي موضعها ، فكأنه قال : نخل خاوية المواضع ، وهذا غاية الإعجاز حيث أتى بلفظ مناسب للألفاظ السابقة واللاحقة من حيث اللفظ ، فكان الدليل يقتضي ذلك ، بخلاف الشاعر الذي يختار اللفظ على المذهب الضعيف لأجل الوزن والقافية .