مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَكَيۡفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} (16)

ثم قال تعالى : { فكيف كان عذابي ونذر } وفيه وجهان : ( أحدهما ) : أن يكون ذلك استفهاما من النبي صلى الله عليه وسلم تنبيها له ووعدا بالعاقبة ( وثانيهما ) : أن يكون عاما تنبيها للخلق ونذر أسقط منه ياء الإضافة كما حذف ياء يسري في قوله تعالى : { والليل إذا يسر } وذلك عند الوقف ومثله كثير كما في قوله تعالى : { فإياي فاعبدون ولا هم ينقذون } وقوله تعالى : { يا عباد فاتقون } وقوله تعالى : { ولا تكفرون } وقرئ بإثبات الياء : { عذابي ونذري } وفيه مسائل :

الأولى : ما الذي اقتضى الفاء في قوله تعالى : { فكيف كان } ؟ نقول : أما إن قلنا إن الاستفهام من النبي صلى الله عليه وسلم ، فكأنه تعالى قال له قد علمت أخبار من كان قبلك فكيف كان أي بعدما أحاط بهم علمك بنقلها إليك ، وأما إن قلنا الاستفهام عام فنقول لما قال : { هل من مدكر } فرض وجودهم وقال : يا من يتذكر ، وعلم الحال بالتذكير : { فكيف كان عذابي } ويحتمل أن يقال : هو متصل بقوله : { فهل من مدكر } تقديره مدكر كيف كان عذابي .

المسألة الثانية : ما رأوا العذاب ولا النذر فكيف استفهم منهم ؟ نقول : أما على قولنا الاستفهام من النبي صلى الله عليه وسلم فقد علم لما علم ، وأما على قولنا عام فهو على تقدير الإدكار وعلى تقدير الادكار يعلم الحال ، ويحتمل أن يقال : إنه ليس باستفهام وإنما هو إخبار عن عظمة الأمر كما في قوله تعالى : { الحاقة ما الحاقة } و{ القارعة ما القارعة } وهذا لأن الاستفهام يذكر للإخبار كما أن صيغة هل تذكر للاستفهام فيقال زيد في الدار ؟ بمعنى هل زيد في الدار ، ويقول المنجز وعده هل صدقت ؟ فكأنه تعالى قال : عذابي وقع وكيف كان أي كان عظيما وحينئذ لا يحتاج إلى علم من يستفهم منه .

المسألة الثالثة : قال تعالى من قبل : { ففتحنا ، وفجرنا ، وبأعيننا } ولم يقل كيف كان عذابنا نقول لوجهين ( أحدهما ) : لفظي وهو أن ياء المتكلم يمكن حذفها لأنها في اللفظ تسقط كثيرا فيما إذا التقى ساكنان ، تقول : غلامي الذي ، وداري التي ، وهنا حذفت لتواخي آخر الآيات ، وأما النون والألف في ضمير الجمع فلا تحذف ( وأما الثاني ) : وهو المعنوي فنقول : إن كان الاستفهام من النبي صلى الله عليه وسلم فتوحيد الضمير للأنباء ، وفي فتحنا وفجرنا لترهيب العصاة ، ونقول : قد ذكرنا أن قوله : { مدكر } فيه إشارة إلى قوله : { ألست بربكم } فلما وحد الضمير بقوله : { ألست بربكم } قال فكيف كان .

المسألة الرابعة : النذر جمع نذير فهل هو مصدر كالنسيب والنحيب أو فاعل كالكبير والصغير ؟ نقول : أكثر المفسرين على أنه مصدر هاهنا ، أي كيف كان عاقبة عذابي وعاقبة إنذاري والظاهر أن المراد الأنباء ، أي كيف كان عاقبة أعداء الله ورسله ؟ هل أصاب العذاب من كذب الرسل أم لا ؟ فإذا علمت الحال يا محمد فاصبر فإن عاقبة أمرك كعاقبة أولئك النذر ولم يجمع العذاب لأنه مصدر ولو جمع لكان في جمعه تقدير وفرض ولا حاجة إليه ، فإن قيل : قوله تعالى : { كذبت ثمود بالنذر } أي بالإنذارات لأن الإنذارات جاءتهم ، وأما الرسل فقد جاءهم واحد ، نقول : كل من تقدم من الأمم الذين أشركوا بالله كذبوا بالرسل وقالوا : ما أنزل الله من شيء وكان المشركون مكذبين بالكل ما خلا إبراهيم عليه السلام فكانوا يعتقدون فيه الخير لكونه شيخ المرسلين فلا يقال : كذبت ثمود بالنذر ، أي بالأنبياء بأسرهم ، كما أنكم أيها المشركون تكذبون بهم .