مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{كَذَّبَتۡ عَادٞ فَكَيۡفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} (18)

قوله تعالى : { كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر } وفيه مسائل :

الأولى : قال في قوم نوح : { كذبت قوم نوح } ولم يقل في عاد كذبت قوم هود وذلك لأن التعريف كلما أمكن أن يؤتى به على وجه أبلغ فالأولى أن يؤتى به والتعريف بالاسم العلم أولى من التعريف بالإضافة إليه ، فإنك إذا قلت : بيت الله لا يفيد ما يفيد قولك الكعبة ، فكذلك إذا قلت : رسول الله لا يفيد ما يفيد قولك محمد فعاد اسم علم للقوم لا يقال قوم هود أعرف لوجهين ( أحدهما ) : أن الله تعالى وصف عادا بقوم هود حيث قال : { ألا بعدا لعاد قوم هود } ولا يوصف الأظهر بالأخفى والأخص بالأعم ( ثانيهما ) : أن قوم هود واحد وعاد ، قيل : إنه لفظ يقع على أقوام ولهذا قال تعالى : { عادا الأولى } لأنا نقول : أما قوله تعالى : { لعاد قوم هود } فليس ذلك صفة وإنما هو بدل ويجوز في البدل أن يكون دون المبدل في المعرفة ، ويجوز أن يبدل عن المعرفة بالنكرة ، وأما عادا الأولى فقد قدمنا أن ذلك لبيان تقدمهم أي عادا الذين تقدموا وليس ذلك للتمييز والتعريف كما تقول محمد النبي شفيعي والله الكريم ربي ورب الكعبة المشرفة لبيان الشرف لا لبيانها وتعريفها كما تقول : دخلت الدار المعمورة من الدارين وخدمت الرجل الزاهد من الرجلين فتبين المقصود بالوصف .

المسألة الثانية : لم يقل كذبوا هودا كما قال : { فكذبوا عبدنا } وذلك لوجهين ( أحدهما ) : أن تكذيب نوح كان أبلغ وأشد حيث دعاهم قريبا من ألف سنة وأصروا على التكذيب ، ولهذا ذكر الله تعالى تكذيب نوح في مواضع ولم يذكر تكذيب غير نوح صريحا وإن نبه عليه [ في ] واحد منها في الأعراف قال : { فنجيناه والذين معه في الفلك } وقال حكاية عن نوح : { قال رب إن قومي كذبون } وقال : { إنهم عصوني } وفي هذه المواضع لم يصرح بتكذيب قوم غيره منهم إلا قليلا ولذلك قال تعالى في مواضع ذكر شعيب فكذبوه : { وقال الذين كذبوا شعيبا } وقال تعالى عن قومه : { وإنا لنظنك من الكاذبين } لأنه دعا قومه زمانا مديدا ( وثانيهما ) : أن حكاية عاد مذكورة هاهنا على سبيل الاختصار فلم يذكر إلا تكذيبهم وتعذيبهم فقال : { كذبت عاد } كما قال : { كذبت قوم نوح } ولم يذكر دعاءه عليهم وإجابته كما قال في نوح .

المسألة الثالثة : قال تعالى : { فكيف كان عذابي ونذر } قبل أن بين العذاب وفي حكاية نوح بين العذاب ، ثم قال : { فكيف كان } فما الحكمة فيه ؟ نقول : الاستفهام الذي ذكره في حكاية نوح مذكور هاهنا ، وهو قوله تعالى : { فكيف كان عذابي ونذر } كما قال من قبل ومن بعد في حكاية ثمود غير أنه تعالى حكى في حكاية عاد { فكيف كان } مرتين ، المرة الأولى استفهم ليبين كما يقول المعلم لمن لا يعرف كيف المسألة الفلانية ليصير المسئول سائلا ، فيقول : كيف هي فيقول إنها كذا وكذا فكذلك هاهنا قال كذبت عاد فكيف كان عذابي ، فقال السامع : بين أنت فإني لا أعلم فقال : { إنا أرسلنا } وأما المرة الثانية فاستفهم للتعظيم كما يقول القائل للعارف المشاهد كيف فعلت وصنعت فيقول : نعم ما فعلت ويقول : أتيت بعجيبة فيحقق عظمة الفعل بالاستفهام ، وإنما ذكر هاهنا المرة الأولى ولم يذكر في موضع آخر لأن الحكاية ذكرها مختصرة فكان يفوت الاعتبار بسبب الاختصار فقال : { كيف كان عذابي } حثا على التدبر والتفكر ، وأما الاختصار في حكايتهم فلأن أكثر أمرهم الاستكبار والاعتماد على القوة وعدم الالتفات إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدل على قوله تعالى : { فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة } وذكر استكبارهم كثيرا ، وما كان قوم محمد صلى الله عليه وسلم مبالغين في الاستكبار وإنما كانت مبالغتهم في التكذيب ونسبته إلى الجنون ، وذكر حالة نوح على التفصيل فإن قومه جمعوا بين التكذيب والاستكبار ، وكذلك حال صالح عليه السلام ذكرها على التفصيل لشدة مناسبتها بحال محمد صلى الله عليه وسلم .