مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{تَبَٰرَكَ ٱسۡمُ رَبِّكَ ذِي ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ} (78)

قوله تعالى : { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } وفيه مسائل :

المسألة ( الأولى ) : في الترتيب وفيه وجوه أحدها : أنه تعالى لما ختم نعم الدنيا بقوله تعالى : { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } ختم نعم الآخرة بقوله : { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } إشارة إلى أن الباقي والدائم لذاته هو الله تعالى لا غير والدنيا فانية ، والآخرة وإن كانت باقية لكن بقاؤها بإبقاء الله تعالى ( ثانيها ) : هو أنه تعالى في أواخر هذه السور كلها ذكر اسم الله فقال في السورة التي قبل هذه : { عند مليك مقتدر } وكون العبد عند الله من أتم النعم كذلك هاهنا بعد ذكر الجنات وما فيها من النعم قال : { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } إشارة إلى أن أتم النعم عند الله تعالى ، وأكمل اللذات ذكر الله تعالى ، وقال في السورة التي بعد هذه : { فروح وريحان وجنة نعيم } ثم قال تعالى في آخر السورة : { فسبح باسم ربك العظيم } ( ثالثها ) : أنه تعالى ذكر جميع الذات في الجنات ، ولم يذكر لذة السماع وهي من أتم أنواعها ، فقال : { متكئين على رفرف خضر } يسمعون ذكر الله تعالى .

المسألة الثانية : أصل التبارك من البركة وهي الدوام والثبات ، ومنها بروك البعير وبركة الماء ، فإن الماء يكون فيها دائما وفيه وجوه ( أحدها ) : دام اسمه وثبت ( وثانيها ) : دام الخير عنده لأن البركة وإن كانت من الثبات لكنها تستعمل في الخير ( وثالثها ) : تبارك بمعنى علا وارتفع شأنا لا مكانا .

المسألة الثالثة : قال بعد ذكر نعم الدنيا : { ويبقى وجه ربك } وقال بعد ذكر نعم الآخرة : { تبارك اسم ربك } لأن الإشارة بعد عد نعم الدنيا وقعت إلى عدم كل شيء من الممكنات وفنائها في ذواتها ، واسم الله تعالى ينفع الذاكرين ولا ذاكر هناك يوحد الله غاية التوحيد فقال : ويبقى وجه الله تعالى والإشارة هنا ، وقعت إلى أن بقاء أهل الجنة بإبقاء الله ذاكرين اسم الله متلذذين به فقال : { تبارك اسم ربك } أي في ذلك اليوم لا يبقى اسم أحد إلا اسم الله تعالى به تدور الألسن ولا يكون لأحد عند أحد حاجة بذكره ولا من أحد خوف ، فإن تذاكروا تذاكروا باسم الله .

المسألة الرابعة : الاسم مقحم أو هو أصل مذكور له التبارك ، نقول : فيه وجهان ( أحدهما ) : وهو المشهور أنه مقحم كالوجه في قوله تعالى : { ويبقى وجه ربك } يدل عليه قوله : { فتبارك الله أحسن الخالقين } و{ تبارك الذي بيده الملك } وغيره من صور استعمال لفظ تبارك ( وثانيهما ) : هو أن الاسم تبارك ، وفيه إشارة إلى معنى بليغ ، أما إذا قلنا : تبارك بمعنى علا فمن علا اسمه كيف يكون مسماه وذلك لأن الملك إذا عظم شأنه لا يذكر اسمه إلا بنوع تعظيم ثم إذا انتهى الذاكر إليه يكون تعظيمه له أكثر ، فإن غاية التعظيم للاسم أن السامع إذا سمعه قام كما جرت عادة الملوك أنهم إذا سمعوا في الرسائل اسم سلطان عظيم يقومون عند سماع اسمه ، ثم إن أتاهم السلطان بنفسه بدلا عن كتابه الذي فيه اسمه يستقبلونه ويضعون الجباه على الأرض بين يديه ، وهذا من الدلائل الظاهرة على أن علو الاسم يدل على علو زائد في المسمى ، أما إن قلنا : بمعنى دام الخير عنده فهو إشارة إلى أن ذكر اسم الله تعالى يزيل الشر ويهرب الشيطان ويزيد الخير ويقرب السعادات ، وأما إن قلنا : بمعنى دام اسم الله ، فهو إشارة إلى دوام الذاكرين في الجنة على ما قلنا من قبل .

المسألة الخامسة : القراءة المشهورة هاهنا : { ذي الجلال } وفي قوله تعالى : { ويبقى وجه ربك ذو الجلال } لأن الجلال للرب ، والاسم غير المسمى ، وأما وجه الرب فهو الرب فوصف هناك الوجه ووصف هاهنا الرب ، دون الاسم ولو قال : ويبقى الرب لتوهم أن الرب إذا بقي ربا فله في ذلك الزمان مربوب ، فإذا قال وجه أنسى المربوب فحصل القطع بالبقاء للحق فوصف الوجه يفيد هذه الفائدة ، والله أعلم والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه .