مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلسَّـٰبِقُونَ} (10)

قوله تعالى : { والسابقون السابقون ، أولئك المقربون } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في إعرابه ثلاثة أوجه ( أحدها ) { والسابقون } عطف على { وأصحاب الميمنة } وعنده تم الكلام ، وقوله : { والسابقون أولئك المقربون } جملة واحدة ( والثاني ) أن قوله : { والسابقون السابقون } جملة واحدة ، كما يقول القائل : أنت أنت وكما قال الشاعر :

أنا أبو النجم وشعري شعري ***

وفيه وجهان ( أحدهما ) أن يكون لشهرة أمر المبتدأ بما هو عليه فلا حاجة إلى الخبر عنه وهو مراد الشاعر وهو المشهور عند النحاة ( والثاني ) للإشارة إلى أن في المبتدأ مالا يحيط العلم به ولا يخبر عنه ولا يعرف منه إلا نفس المبتدأ ، وهو كما يقول القائل لغيره أخبرني عن حال الملك فيقول : لا أعرف من الملك إلا أنه ملك فقوله : { السابقون السابقون } أي لا يمكن الإخبار عنهم إلا بنفسهم فإن حالهم وما هم عليه فوق أن يحيط به علم البشر ( وهاهنا لطيفة ) وهي أنه في أصحاب الميمنة قال : { ما أصحاب الميمنة } بالاستفهام وإن كان للإعجاز لكن جعلهم مورد الاستفهام وهاهنا لم يقل : والسابقون ما السابقون ، لأن الاستفهام الذي للإعجاز يورد على مدعي العلم فيقال له : إن كنت تعلم فبين الكلام وأما إذا كان يعترف بالجهل فلا يقال له : كذبت ولا يقال : كيف كذا ، وما الجواب عن ذلك ، فكذلك في : { والسابقون } ما جعلهم بحيث يدعون ، فيورد عليهم الاستفهام فيبين عجزهم بل بنى الأمر على أنهم معترفون في الابتداء بالعجز ، وعلى هذا فقوله تعالى : { والسابقون السابقون } كقول العالم : لمن سأل عن مسألة معضلة وهو يعلم أنه لا يفهمها وإن كان أبانها غاية الإبانة أن الأمر فيها على ما هو عليه ولا يشتغل بالبيان ( وثالثها ) هو أن السابقون ثانيا تأكيد لقوله : { والسابقون } والوجه الأوسط هو الأعدل الأصح ، وعلى الوجه الأوسط قول آخر : وهو أن المراد منه أن السابقين إلى الخيرات في الدنيا هم السابقون إلى الجنة في العقبى .