مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِذَا وَقَعَتِ ٱلۡوَاقِعَةُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الواقعة

قوله تعالى : { إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة } .

أما تعلق هذه السورة بما قبلها ، فذلك من وجوه ( أحدها ) أن تلك السورة مشتملة على تعديد النعم على الإنسان ومطالبته بالشكر ومنعه عن التكذيب كما مر ، وهذه السورة مشتملة على ذكر الجزاء بالخير لمن شكر وبالشر لمن كذب وكفر ( ثانيها ) أن تلك السورة متضمنة للتنبيهات بذكر الآلاء في حق العباد ، وهذه السورة كذلك لذكر الجزاء في حقهم يوم التناد ( ثالثها ) أن تلك السورة سورة إظهار الرحمة وهذه السورة سورة إظهار الهيبة على عكس تلك السورة مع ما قبلها ، وأما تعلق الأول بالآخر ففي آخر تلك السورة إشارة إلى الصفات من باب النفي والإثبات وفي أول هذه السورة إلى القيامة وإلى ما فيها من المثوبات والعقوبات ، وكل واحد منهما يدل على علو اسمه وعظمة شأنه ، وكمال قدرته وعز سلطانه .

ثم في الآية مسائل :

المسألة الأولى : ففي تفسيرها جملة وجوه ( أحدها ) المراد إذا وقعت القيامة الواقعة أو الزلزلة الواقعة يعترف بها كل أحد ، ولا يتمكن أحد من إنكارها ، ويبطل عناد المعاندين فتخفض الكافرين في دركات النار ، وترفع المؤمنين في درجات الجنة ، هؤلاء في الجحيم وهؤلاء في النعيم ( الثاني ) { إذا وقعت الواقعة } تزلزل الناس ، فتخفض المرتفع ، وترفع المنخفض ، وعلى هذا فهي كقوله تعالى : { فجعلنا عاليها سافلها } في الإشارة إلى شدة الواقعة ، لأن العذاب الذي جعل العالي سافلا بالهدم ، والسافل عاليا حتى صارت الأرض المنخفضة كالجبال الراسية ، والجبال الراسية كالأرض المنخفضة أشد وأبلغ ، فصارت البروج العالية مع الأرض متساوية ، والواقعة التي تقع ترفع المنخفضة فتجعل من الأرض أجزاء عالية ومن السماء أجزاء سافلة ، ويدل عليه قوله تعالى : { إذا رجت الأرض رجا } ، { وبست الجبال بسا } فإنه إشارة إلى أن الأرض تتحرك بحركة مزعجة ، والجبال تتفتت ، فتصير الأرض المنخفضة كالجبال الراسية ، والجبال الشامخة كالأرض السافلة ، كما يفعل هبوب الريح في الأرض المرملة ( الثالث ) { إذا وقعت الواقعة } يظهر وقوعها لكل أحد ، وكيفية وقوعها ، فلا يوجد لها كاذبة ولا متأول يظهر فقوله : { خافضة رافعة } معطوف على { كاذبة } نسقا ، فيكون كما يقول القائل : ليس لي في الأمر شك ولا خطأ ، أي لا قدرة لأحد على رفع المنخفض ولا خفض المرتفع .

المسألة الثانية : { إذا وقعت الواقعة } يحتمل أن تكون الواقعة صفة لمحذوف وهي القيامة أو الزلزلة على ما بينا ، ويحتمل أن يكون المحذوف شيئا غير معين ، وتكون تاء التأنيث مشيرة إلى شدة الأمر الواقع وهوله ، كما يقال : كانت الكائنة والمراد كان الأمر كائنا ما كان ، وقولنا : الأمر كائن لا يفيد إلا حدوث أمر ولو كان يسيرا بالنسبة إلى قوله : كانت الكائنة ، إذ في الكائنة وصف زائد على نفس كونه شيئا ، ولنبين هذا ببيان كون الهاء للمبالغة في قولهم : فلان راوية ونسابة ، وهو أنهم إذا أرادوا أن يأتوا بالمبالغة في كونه راويا كان لهم أن يأتوا بوصف بعد الخبر ويقولون : فلان راو جيد أو حسن أو فاضل ، فعدلوا عن التطويل إلى الإيجاز مع زيادة فائدة ، فقالوا : نأتي بحرف نيابة عن كلمة كما أتينا بهاء التأنيث حيث قلنا : ظالمة بدل قول القائل : ظالم أنثى ، ولهذا لزمهم بيان الأنثى عند مالا يمكن بيانها بالهاء في قولهم شاة أنثى وكالكتابة في الجمع حيث قلنا : قالوا بدلا عن قول القائل : قال وقال وقال ، وقالا بدلا عن قوله : قال وقال فكذلك في المبالغة أرادوا أن يأتوا بحرف يغني عن كلمة والحرف الدال على الزيادة ينبغي أن يكون في الآخر ، لأن الزيادة بعد أصل الشيء ، فوضعوا الهاء عند عدم كونها للتأنيث والتوحيد في اللفظ المفرد لا في الجمع للمبالغة إذا ثبت هذا فنقول : في كانت الكائنة ووقعت الواقعة حصل هذا معنى لا لفظا ، أما معنى فلأنهم قصدوا بقولهم : كانت الكائنة أن الكائن زائد على أصل ما يكون ، وأما لفظا فلأن الهاء لو كانت للمبالغة لما جاز إثبات ضمير المؤنث في الفعل ، بل كان ينبغي أن يقولوا : كان الكائنة ووقع الواقعة ، ولا يمكن ذلك لأنا نقول : المراد به المبالغة .

المسألة الثالثة : العامل في { إذا } ماذا ؟ نقول : فيه ثلاث أوجه ( أحدها ) فعل متقدم يجعل إذا مفعولا به لا ظرفا وهو اذكر ، كأنه قال : اذكر القيامة ( ثانيها ) العامل فيها ليس لوقعتها كاذبة كما تقول : يوم الجمعة ليس لي شغل ( ثالثها ) يخفض قوم ويرفع قوم ، وقد دل عليه { خافضة رافعة } ، وقيل : العامل فيها قوله : { فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة } أي في يوم وقوع الواقعة .