مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قُل لَّآ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِي نَفۡعٗا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَيۡرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوٓءُۚ إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ وَبَشِيرٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (188)

قوله تعالى : { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون }

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه : الأول : أن قوله : { لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا } أي أنا لا أدعي علم الغيب إن أنا إلا نذير وبشير ، ونظيره قوله تعالى في سورة يونس : { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل } الثاني : روي أن أهل مكة قالوا : يا محمد ألا يخبرك ربك بالرخص والغلاء حتى نشتري فنربح ، وبالأرض التي تجدب لنرتحل إلى الأرض الخصبة . فأنزل الله تعالى هذه الآية : الثالث : قال بعضهم : لما رجع عليه الصلاة والسلام من غزوة بني المصطلق جاءت ريح في الطريق ففرت الدواب منها ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بموت رفاعة بالمدينة وكان فيه غيظ للمنافقين . وقال «انظروا أين ناقتي » ، فقال عبد الله بن أبي مع قومه ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت رجل بالمدينة ولا يعرف أين ناقته . فقال عليه الصلاة والسلام : «إن ناسا من المنافقين . قالوا كيت وكيت وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة » فوجدها على ما قال ، فأنزل الله تعالى : { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله } .

المسألة الثانية : اعلم أن القوم لما طالبوه بالإخبار عن الغيوب وطالبوه بإعطاء الأموال الكثيرة والدولة العظيمة ذكر أن قدرته قاصرة وعلمه قليل ، وبين أن كل من كان عبدا كان كذلك والقدرة الكاملة والعلم المحيط ليسا إلا لله تعالى ، فالعبد كيف يحصل له هذه القدرة ، وهذا العلم ؟ واحتج أصحابنا في مسألة خلق الأعمال بقوله تعالى : { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله } والإيمان نفع والكفر ضر ، فوجب أن لا يحصلا إلا بمشيئة الله تعالى ، وذلك يدل على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بمشيئة الله سبحانه ، وتقريره ما ذكرناه مرارا أن القدرة على الكفر إن لم تكن صالحة للإيمان ، فخالق تلك القدرة يكون مريدا للكفر ، وإن كانت صالحة للإيمان ، فخالق تلك القدرة يكون مريدا للكفر ، وإن كانت صالحة للإيمان امتنع صدور الكفر عنها بدلا عن الإيمان إلا عند حدوث داعية جازمة ، فخالق تلك الداعية الجازمة يكون مريدا للكفر ، فثبت أن على جميع التقادير : لا يملك العبد لنفسه نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله .

أجاب القاضي عنه بوجوه : الأول : أن ظاهر قوله : { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله } وإن كان عاما بحسب اللفظ إلا أنا ذكرنا أن سبب نزوله هو أن الكفار قالوا : يا محمد ألا يخبرك ربك بوقت السعر الرخيص قبل أن يغلو ، حتى نشتري الرخيص فنربح عليه عند الغلاء ، فيحمل اللفظ العام على سبب نزوله ، والمراد بالنفع : تملك الأموال وغيرها ، والمراد بالضر وقت القحط ، والأمراض وغيرها . الثاني : المراد لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا فيما يتصل بعلم الغيب ، والدليل على أن المراد ذلك قوله : { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير } الثالث : المراد : لا أملك لنفسي من الضر والنفع إلا قدر ما شاء الله أن يقدرني عليه ويمكنني منه ، والمقصود من هذا الكلام بيان أنه لا يقدر على شيء إلا إذا أقدره الله عليه .

واعلم أن هذه الوجوه بأسرها عدول عن ظاهر اللفظ ، وكيف يجوز المصير إليه مع أنا أقمنا البرهان القاطع العقلي على أن الحق ليس إلا ما دل عليه ظاهر لفظ هذه الآية ، والله أعلم .

المسألة الثالثة : احتج الرسول صلى الله عليه وسلم على عدم علمه بالغيب بقوله : { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير } واختلفوا في المراد من هذا الخير . فقيل المراد منه : جلب منافع الدنيا وخيراتها ، ودفع آفاتها ومضراتها ، ويدخل فيه ما يتصل بالخصب والجدب والأرباح والأكساب . وقيل : المراد منه ما يتصل بأمر الدين ، يعني : لو كنت أعلم الغيب كنت أعلم أن الدعوى إلى الدين الحق تؤثر في هذا ولا تؤثر في ذاك ، فكيف اشتغل بدعوة هذا دون ذاك . وقيل : المراد منه : ما يتصل بالجواب عن السؤالات ، والتقدير : لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير .

والجواب : عن هذه المسائل التي سألوه عنها مثل السؤال عن وقت قيام الساعة وغيره .

أما قوله : { وما مسني السوء } ففيه قولان :

القول الأول : قال الواحدي رحمه الله : تم الكلام عند قوله : { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير } ثم قال : { وما مسني السوء } أي ليس بي جنون ، وذلك لأنهم نسبوه إلى الجنون كما ذكرنا في قوله : { ما بصاحبهم من جنة } وهذا القول عندي بعيد جدا ويوجب تفكك نظم الآية .

والقول الثاني : إنه تمام الكلام الأول ، والتقدير : ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من تحصيل الخير ، ولاحترزت عن الشر حتى صرت بحيث لا يمسني سوء . ولما لم يكن الأمر كذلك ظهر أن علم الغيب غير حاصل عندي ، ولما بين بما سبق أنه لا يقدر إلا على ما أقدره الله عليه ، ولا يعلم إلا ما أعطاه الله العلم به قال : { إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون } والنذير مبالغة في الإنذار بالعقاب على فعل المعاصي وترك الواجبات ، والبشير مبالغة في البشارة بالثواب على فعل الواجبات وترك المعاصي وقوله : { لقوم يؤمنون } فيه قولان : أحدهما : أنه نذير وبشير للمؤمنين والكافرين إلا أنه ذكر إحدى الطائفتين وترك ذكر الثانية لأن ذكر إحداهما ، يفيد ذكر الأخرى كقوله : { سرابيل تقيكم الحر } والثاني : أنه عليه الصلاة والسلام وإن كان نذيرا وبشيرا للكل إلا أن المنتفع بتلك النذارة والبشارة هم المؤمنون . فلهذا السبب خصهم الله بالذكر ، وقد بالغنا في تقرير هذا المعنى في تفسير قوله تعالى : { هدى للمتقين }