مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} (22)

ثم إنه تعالى وصف بعد ذلك أحوال وجهه ، فقال :

{ ثم عبس وبسر } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : اعلم أن قوله : { عبس وبسر } يدل على أنه كان عارفا في قلبه صدق محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنه كان يكفر به عنادا ، ويدل عليه وجوه : ( الأول ) أنه بعد أن تفكر وتأمل قدر في نفسه كلاما عزم على أنه يظهره ظهرت العبوسة في وجهه ولو كان معتقدا صحة ذلك الكلام لفرح باستنباطه وإدراكه ، ولكنه لما لم يفرح به علمنا أنه كان يعلم ضعف تلك الشبهة ، إلا أنه لشدة عناده ما كان يجد شبهة أجود من تلك الشبهة ، فلهذا السبب ظهرت العبوسة في وجهه ( الثاني ) ما روي أن الوليد مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ حم السجدة فلما وصل إلى قوله : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } أنشده الوليد بالله وبالرحم أن يسكت ، وهذا يدل على أنه كان يعلم أنه مقبول الدعاء صادق اللهجة ، ولما رجع الوليد قال لهم : والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه ليعلو وما يعلى عليه ، فقالت قريش : صبأ الوليد ولو صبأ لتصبأن قريش كلها . فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه ، ثم دخل عليه محزونا فقال مالك : يا ابن الأخ ؟ فقال : إنك قد صبوت لتصيب من طعام محمد وأصحابه وهذه قريش تجمع لك مالا ليكون ذلك عوضا مما تقدر أن تأخذ من أصحاب محمد ، فقال : والله ما يشبعون فكيف أقدر أن آخذ منهم مالا ، ولكني تفكرت في أمره كثيرا فلم أجد شيئا يليق به إلا أنه ساحر ، فأقول استعظامه للقرآن واعترافه بأنه ليس من كلام الجن والإنس يدل على أنه كان في ادعاء السحر معاندا لأن السحر يتعلق بالجن ( والثالث ) أنه كان يعلم أن أمر السحر مبني على الكفر بالله ، والأفعال المنكرة ، وكان من الظاهر أن محمدا لا يدعو إلا إلى الله ، فكيف يليق به السحر ؟ فثبت بمجموع هذه الوجوه أنه إنما عبس وبسر لأنه كان يعلم أن الذي يقوله كذب وبهتان .

المسألة الثانية : قال الليث : عبس يعبس فهو عابس إذا قطب ما بين عينيه ، فإن أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل : كلح ، فإن اهتم لذلك وفكر فيه قيل : بسر ، فإن غضب مع ذلك قيل : بسل .