اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} (22)

قوله تعالى : { ثُمَّ عَبَسَ } ، يقال : عبس يعبس عبساً ، وعبوساً : أي : قطب وجهه .

وقال الليث : عبس يعبس فهو عبس إذا قطب ما بين عينيه ، فإذا أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل : كلح ، فإن اهتم لذلك ، وفكر فيه قيل : بسر ، فإن غضب مع ذلك قيل بسل . واعلم أنه ذكر صفات جسمه بعد صفات قلبه ، وهذا يدل على عناده ، لأن من فكر في أمر حسن يظهر عليه الفرح لا العبوس ، والعبس أيضاً : ما يبس في أذناب الإبل من البعر ، والبول ؛ قال أبو النجم : [ الرجز ]

4961 - كَأنَّ في أذْنابِهنَّ الشُّوَّلِ*** مِنْ عبسِ الصَّيفِ قُرونَ الأُيَّلِ{[58517]}

فصل في معنى الآية

معنى الآية : قطب وجهه في وجوه المؤمنين ، وذلك أنه لما قال لقريش . محمداً ساحر مرَّ على جماعة من المسلمين ، فدعوه إلى الإسلام ، فعبس في وجوههم .

وقيل : عبس على النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه ، والعبس : مصدر «عبس » مخففاً ، كما تقدم .

قوله : " وَبَسَرَ " ، يقال : بَسَر يَبسُرُ بسراً وبُسُوراً : إذا قبض ما بين عينيه كراهة للشيء واسود وجهه منه ، يقال : وجه باسر ، أي منقبض مسود كالح متغير اللون ، قاله قتادة والسدي ؛ ومنه قول بشير بن الحارث : [ المتقارب ]

4962 - صَبَحْنَا تَمِيماً غَداةَ الجِفارِ*** بِشهْبَاءَ ملمُومةٍ بَاسِرَهْ{[58518]}

وأهل اليمن يقولون : بسر المركب بسراً ، أي : وقف لا يتقدم ، ولا يتأخر ، وقد أبسرنا : أي صرنا إلى البسور .

وقال الراغب : البسر استعجال الشيء قبل أوانه ، نحو : بسر الرجل حاجته طلبها في غير أوانها ، وماء بسر : متناول من غديره قبل سكونه ، ومنه قيل للذي لم يدرك من التمر : بسر ، وقوله تعالى : { عَبَسَ وَبَسَرَ } ، أي : أظهر العبوس قبل أوانه ، وقبل وقته .

قال : فإن قيل : فقوله تعالى : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } [ القيامة : 24 ] ، ليس يفعلون ذلك قبل الموت ، وقد قلت : إن ذلك يكون فيما يقع قبل وقته .

قيل : أشير بذلك إلى حالهم قبل الانتهاء بهم إلى النار ، فخص لفظ البسر تنبيهاً على أن ذلك مع ما ينالهم من بعد ، يجري مجرى التكلف ، ومجرى ما يفعل قبل وقته ، ويدل على ذلك { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [ القيامة : 25 ] .

وقد عطف في هذه الجمل بحروف مختلفة ، ولكل منها مناسبة ، أما ما عطف ب «ثُمَّ » فلأن بين الأفعال مهلة ، وثانياً : لأن بين النظر ، والعبوس ، وبين العبوس ، والإدبار تراخياً .

قال الزمخشريُّ : و «ثمّ نظر » عطف على «فكَّر » و «قدَّر » ، والدعاء اعتراض بينهما ، يعني بالدعاء قوله : «فَقُتِل » ، ثم قال : فإن قلت : ما معنى «ثُمَّ » الداخلة على تكرير الدعاء ؟ .

قلت : الدلالة على أن الكرة الثانية أبلغ من الأولى ؛ ونحوه قوله : [ الطويل ]

4963 - ألاَ يَا اسْلمِي ثُمَّ اسْلمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي *** . . . {[58519]}

فإن قلت : ما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها ؟ .

قلت : للدلالة على أنه تأنَّى في التأمل ، والتمهل ، وكأن بين الأفعال المتناسقة تراخٍ ، وتباعد ، فإن قلت : فلم قال : «فَقالَ » - بالفاء - بعد عطف ما قبله ب «ثُمَّ » ؟ .

قلت : لأن الكلمة لما خطرت بباله بعد التطلب لم يتمالك أن نطق بها من غير تلبث ، فإن قلت : فلم لم يتوسط حرف العطف بين الجملتين ؟ .

قلت : لأن الأخرى جرت من الأولى مجرى التأكيد من المؤكد .


[58517]:ينظر اللسان (شول)، و(عبس)، و(أول)، والقرطبي (19/50).
[58518]:ينظر اللسان (حضر) و(شهب)، و(لمم)، و(بسر)، والقرطبي 19/50، والدر المصون 6/416.
[58519]:صدر بيت لحميد بن ثور الهلالي وعجزه: ... *** ثلاث تحيات وإن لم تكلم ينظر ديوانه ص 133، ورصف المباني ص 453، وشرح المفصل 3/39، والحماسة 2/137، والكشاف 4/249، والدر المصون 6/416.