مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَفَوَٰكِهَ مِمَّا يَشۡتَهُونَ} (42)

قوله تعالى : { إن المتقين في ظلال وعيون ، وفواكه مما يشتهون ، كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون ، إنا كذلك نجزي المحسنين ، ويل يومئذ للمكذبين } .

اعلم أن هذا هو ( النوع الثامن ) من أنواع تهديد الكفار وتعذيبهم ، وذلك لأن الخصومة الشديدة والنفرة العظيمة كانت في الدنيا قائمة بين الكفار والمؤمنين ، فصارت تلك النفرة بحيث أن الموت كان أسهل على الكافر من أن يرى للمؤمن دولة وقوة ، فلما بين الله تعالى في هذه السورة اجتماع أنواع العذاب والخزي والنكال على الكفار ، بين في هذه الآية اجتماع أنواع السعادة والكرامة في حق المؤمن ، حتى أن الكافر حال ما يرى نفسه في غاية الذل والهوان والخزي والخسران ، ويرى خصمه في نهاية العز والكرامة والرفعة والمنقبة ، تتضاعف حسرته وتتزايد غمومه وهمومه ، وهذا أيضا من جنس العذاب الروحاني ، فلهذا قال في هذه الآية : { ويل يومئذ للمكذبين } وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال مقاتل والكلبي : المراد من قوله : { إن المتقين } الذين يتقون الشرك بالله ، وأقول هذا القول عندي هو الصحيح الذي لا معدل عنه ، ويدل عليه وجوه ( أحدها ) أن المتقي عن الشرك يصدق عليه أنه متق ، لأن المتقي عن الشرك ماهية مركبة من قيدين ( أحدهما ) أنه متق ( والثاني ) خصوص كونه عن الشرك ، ومتى وجد المركب ، فقد وجد كل واحد من مفرداته لا محالة ، فثبت أن كل من صدق عليه أنه متق عن الشرك ، فقد صدق عليه أنه متق أقصى ما في الباب ، أن يقال : هذه الآية على هذا التقدير تتناول كل من كان متقيا لأي شيء كان ، إلا أنا نقول كونه كذلك لا يقدح فيما قلناه ، لأنه خص كل من لم يكن متقيا عن جميع أنواع الكفر فيبقى فيما عداه حجة لأن العام الذي دخل التخصيص يبقى حجة فيما عداه ( وثانيها ) أن هذه السورة من أولها إلى آخرها مرتبة في تقريع الكفار على كفرهم وتخويفهم عليه ، فهذه الآية يجب أن تكون مذكورة لهذا الغرض ، وإلا لتفككت السورة في نظمها وترتيبها ، والنظم إنما يبقى لو كان هذا الوعد حاصلا للمؤمنين بسبب إيمانهم ، لأنه لما تقدم وعيد الكافر بسبب كفره ، وجب أن يقرن ذلك بوعد المؤمن بسبب إيمانه حتى يصير ذلك سببا في الزجر عن الكفر ، فأما أن يقرن به وعد المؤمن بسبب طاعته ، فذلك غير لائق بهذا النظم والترتيب ، فثبت بما ذكرنا أن المراد من قوله : { إن المتقين } كل من كان متقيا عن الشرك والكفر ( وثالثها ) أن حمل اللفظ على المسمى الكامل أولى ، وأكمل أنواع التقوى هو التقوى عن الكفر والشرك ، فكان حمل اللفظ عليه أولى .

41