مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أَلَمۡ نَجۡعَلِ ٱلۡأَرۡضَ كِفَاتًا} (25)

قوله تعالى : { ألم نجعل الأرض كفاتا ، أحياء وأمواتا ، وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ، ويل يومئذ للمكذبين } .

اعلم أن هذا هو ( النوع الرابع ) من تخويف الكفار وذلك لأنه ذكرهم بالنعم التي له عليهم في الأنفس ، وفي هذه الآية ذكرهم بالنعم التي له عليهم في الآفاق . ثم قال في آخر الآية : { ويل يومئذ للمكذبين } والسبب فيه ما قدمنا أن النعم كلما كانت أكثر كانت الجناية أقبح فكان استحقاق الذم عاجلا والعقاب آجلا أشد ، وإنما قدم تلك الآية على هذه الآية ، لأن النعم التي في الأنفس كالأصل للنعم التي في الآفاق ، فإنه لولا الحياة والسمع والبصر والأعضاء السليمة لما كان الانتفاع بشيء من المخلوق ممكنا .

واعلم أنه تعالى ذكر هاهنا ثلاثة أشياء ( أولها ) الأرض ، وإنما قدمها لأن أقرب الأشياء إلينا من الأمور الخارجية هو الأرض ، ومعنى الكفات في اللغة الضم والجمع يقال : كفت الشيء أي ضممته ، ويقال : جراب كفيت وكفت إذا كان لا يضيع شيئا مما يجعل فيه ، ويقال للقدر : كفت . قال صاحب الكشاف : هو اسم ما يكفت ، كقولهم الضمام والجماع لما يضم ويجمع ، ويقال : هذا الباب جماع الأبواب ، وتقول : شددت الشيء ثم تسمي الخيط الذي تشد به الشيء شدادا ، وبه انتصب أحياء وأمواتا كأنه قيل : كافتة أحياء وأمواتا ، أو بفعل مضمر يدل عليه وهو نكفت ويكون المعنى نكفتكم أحياء وأمواتا ، فينصبان على الحال من الضمير هذا هو اللغة ، ثم في المعنى وجوه ( أحدها ) أنها تكفت أحياء على ظهرها وأمواتا في بطنها والمعنى أن الأحياء يسكنون في منازلهم والأموات يدفنون في قبورهم ، ولهذا كانوا يسمون الأرض إما لأنها في ضمها للناس كالأم التي تضم ولدها وتكفله ، ولما كانوا يضمون إليها جعلت كأنها تضمهم ( وثانيها ) أنها كفات الأحياء بمعنى أنها تكفت ما ينفصل الأحياء من الأمور المستقذرة ، فأما أنها تكفت [ الأحياء ] حال كونهم على ظهرها فلا ( وثالثها ) أنها كفات الأحياء بمعنى أنها جامعة لما يحتاج الإنسان إليه في حاجاته من مأكل ومشرب ، لأن كل ذلك يخرج من الأرض والأبنية الجامعة للمصالح الدافعة للمضار مبنية منها .