قوله تعالى : { هذا يوم لا ينطقون ، ولا يؤذن لهم فيعتذرون ، ويل يومئذ للمكذبين } نصب الأعمش ( يوم ) أي هذا الذي قص عليكم واقع يومئذ ، اعلم أن هذا هو ( النوع السادس ) من أنواع تخويف الكفار وتشديد الأمر عليهم ، وذلك لأنه تعالى بين أنه ليس لهم عذر ولا حجة فيما أتوا به من القبائح ، ولا قدرة لهم على دفع العذاب عن أنفسهم ، فيجتمع في حقه في هذا المقام أنواع من العذاب أحدها : عذاب الخجالة ، فإنه يفتضح على رءوس الأشهاد ، ويظهر لكل قصوره وتقصيره وكل من له عقل سليم ، علم أن عذاب الخجالة أشد من القتل بالسيف والاحتراق بالنار ( وثانيها ) وقوف العبد الآبق على باب المولى ووقوعه في يده مع علمه بأنه الصادق الذي يستحيل الكذب عليه ، على ما قال : { ما يبدل القول لدى } ( وثالثها ) أنه يرى في ذلك الموقف خصماءه الذين كان يستخف بهم ويستحقرهم فائزين بالثواب والتعظيم ، ويرى نفسه فائزا بالخزي والنكال ، وهذه ثلاثة أنواع من العذاب الروحاني ( ورابعها ) العذاب الجسماني وهو مشاهدة النار وأهوالها نعوذ بالله منها فلما اجتمعت في حقه هذه الوجوه من العذاب بل ما هو مما لا يصف كنهه إلا الله ، لا جرم قال تعالى في حقهم : { ويل يومئذ للمكذبين } وفي الآية سؤالان :
الأول : كيف يمكن الجمع بين قوله : { هذا يوم لا ينطقون } وقوله : { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } وقوله : { والله ربنا ما كنا مشركين } وقوله : { ولا يكتمون الله حديثا } ويروى أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن هذا السؤال ( والجواب ) عنه من وجوه ( أحدها ) قال الحسن : فيه إضمار ، والتقدير : هذا يوم لا ينطقون فيه بحجة ، ولا يؤذن لهم فيعتذرون ، لأنه ليس لهم فيما عملوه عذر صحيح وجواب مستقيم ، فإذا لم ينطقوا بحجة سليمة وكلام مستقيم فكأنهم لم ينطقوا ، لأن من نطق بما لا يفيد فكأنه لم ينطق ، ونظيره ما يقال لمن ذكر كلاما غير مفيد : ما قلت شيئا ( وثانيها ) قال الفراء : أراد بقوله : { يوم لا ينطقون } تلك الساعة وذلك القدر من الوقت الذي لا ينطقون فيه ، كما يقول : آتيك يوم يقدم فلان ، والمعنى ساعة يقدم وليس المراد باليوم كله ، لأن القدوم إنما يكون في ساعة يسيرة ، ولا يمتد في كل اليوم ( وثالثها ) أن قوله : { لا ينطقون } لفظ مطلق ، والمطلق لا يفيد العموم لا في الأنواع ولا في الأوقات ، بدليل أنك تقول : فلان لا ينطق بالشر ولكنه ينطق بالخير ، وتارة تقول : فلان لا ينطق بشيء البتة ، وهذا يدل على أن مفهوم لا ينطق قدر مشترك بين أن لا ينطق ببعض الأشياء ، وبين أن لا ينطق بكل الأشياء ، وكذلك تقول : فلان لا ينطق في هذه الساعة ، وتقول : فلان لا ينطق البتة ، وهذا يدل على أن مفهوم لا ينطق مشترك بين الدائم والموقت ، وإذا كان كذلك فمفهوم لا ينطق يكفي في صدقه عدم النطق ببعض الأشياء وفي بعض الأوقات ، وذلك لا ينافي حصول النطق بشيء آخر في وقت آخر ، فيكفي في صدق قوله : { لا ينطقون } أنهم لا ينطقون بعذر وعلة في وقت السؤال ، وهذا الذي ذكرناه إشارة إلى صحة الجوابين الأولين بحسب النظر العقلي ، فإن قيل : لو حلف لا ينطق في هذا اليوم ، فنطق في جزء من أجزاء اليوم يحنث ؟ قلنا : مبني الأيمان على العرف ، والذي ذكرناه بحث عن مفهوم اللفظ من حيث إنه هو ( ورابعها ) أن هذه الآية وردت عقيب قول خزنة جهنم لهم { انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب } فينقادون ويذهبون ، فكأنه قيل : إنهم كانوا يؤمرون في الدنيا بالطاعات فما كانوا يلتفتون . أما في هذه الساعة [ فقد ] صاروا منقادين مطيعين في مثل هذا التكليف الذي هو أشق من كل شيء ، تنبيها على أنهم لو تركوا الخصومة في الدنيا لما احتاجوا في هذا الوقت إلى هذا الانقياد الشاق ، والحاصل أن قوله : { هذا يوم لا ينطقون } متقيد بهذا الوقت في هذا العمل ، وتقييد المطلق بسبب مقدمة الكلام مشهور في العرف ، بدليل أن المرأة إذا قالت : أخرج هذه الساعة من الدار ، فقال الزوج : لو خرجت فأنت طالق ، فإنه يتقيد هذا المطلق بتلك الخرجة ، فكذا هاهنا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.