مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَٱسۡجُدۡ لَهُۥ وَسَبِّحۡهُ لَيۡلٗا طَوِيلًا} (26)

{ ومن الليل فاسجد له } المغرب والعشاء ، فتكون هذه الكلمات جامعة الصلوات الخمس وقوله : { وسبحه ليلا طويلا } المراد منه التهجد ، ثم اختلفوا فيه فقال بعضهم : كان ذلك من الواجبات على الرسول عليه السلام ، ثم نسخ كما ذكرنا في سورة المزمل واحتجوا عليه بأن قوله : { فاسجد له وسبحه } أمر وهو للوجوب لاسيما إذا تكرر على سبيل المبالغة ، وقال آخرون : بل المراد التطوع وحكمه ثابت .

القول الثاني : أن المراد من قوله : { واذكر اسم ربك } إلى آخر الآية ليس هو الصلاة بل المراد التسبيح الذي هو القول والاعتقاد ، والمقصود أن يكون ذاكرا لله في جميع الأوقات ليلا ونهارا بقلبه ولسانه ، وهو المراد من قوله : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا } .

واعلم أن في الآية لطيفة أخرى وهي أنه تعالى قال : { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا } أي هديناك إلى هذه الأسرار ، وشرحنا صدرك بهذه الأنوار ، وإذ قد فعلنا بك ذلك فكن منقادا مطيعا لأمرنا ، وإياك وأن تكون منقادا مطيعا لغيرنا ، ثم لما أمره بطاعته ، ونهاه عن طاعة غيره قال : { واذكر اسم ربك } وهذا إشارة إلى أن العقول البشرية ليس عندها إلا معرفة الأسماء والصفات ، أما معرفة الحقيقة فلا ، فتارة يقال له : { واذكر اسم ربك } وهو إشارة إلى معرفة الأسماء ، وتارة يقال له : { واذكر ربك في نفسك } وهو إشارة إلى مقام الصفات ، وأما معرفة الحقيقة المخصوصة التي هي المستلزمة لسائر اللوازم السلبية والإضافية ، فلا سبيل لشيء من الممكنات والمحدثات ، إلى الوصول إليها والاطلاع عليها ، فسبحان من اختفى عن العقول لشدة ظهوره واحتجب عنها بكمال نوره .