مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة النبأ

{ بسم الله الرحمن الرحيم عم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون } فيه مسائل :

المسألة الأولى : { عم } : أصله حرف جر دخل ما الاستفهامية ، قال حسان رحمه الله تعالى :

على ما قام يشتمني لئيم *** كخنزير تمرغ في رماد

والاستعمال الكثير على الحذف والأصل قليل ، ذكروا في سبب الحذف وجوها ( أحدها ) : قال الزجاج لأن الميم تشرك الغنة في الألف فصارا كالحرفين المتماثلين ( وثانيها ) : قال الجرجاني إنهم إذا وصفوا ما في استفهام حذفوا ألفها تفرقة بينها وبين أن تكون اسما كقولهم : فيم وبم ولم وعلام وحتام ( وثالثها ) : قالوا حذفت الألف لاتصال ما بحرف الجر حتى صارت كجزء منه لتنبئ عن شدة الاتصال ( ورابعها ) : السبب في هذا الحذف التخفيف في الكلام فإنه لفظ كثير التداول على اللسان .

المسألة الثانية : قوله { عم يتساءلون } أنه سؤال

وقوله { عن النبأ العظيم } جواب السائل والمجيب هو الله تعالى ، وذلك يدل على علمه بالغيب ، بل بجميع المعلومات . فإن قيل ما الفائدة في أن يذكر الجواب معه ؟ قلنا لأن إيراد الكلام في معرض السؤال والجواب أقرب إلى التفهيم والإيضاح ونظيره { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } .

المسألة الثالثة : قرأ عكرمة وعيسى بن عمر ( عما ) وهو الأصل ، وعن ابن كثير أنه قرأ عمه بهاء السكت ، ولا يخلو إما أن يجري الوصل مجرى الوقف ، وإما أن يقف ويبتدئ ب { يتساءلون عن النبأ العظيم } على أن يضمر يتساءلون لأن ما بعده يفسره كشيء مبهم ثم يفسره .

المسألة الرابعة : ( ما ) لفظة وضعت لطلب ماهيات الأشياء وحقائقها ، تقول ما الملك ؟ وما الروح ؟ وما الجن ؟ والمراد طلب ماهياتها وشرح حقائقها ، وذلك يقتضي كون ذلك المطلوب مجهولا . ثم إن الشيء العظيم الذي يكون لعظمه وتفاقم مرتبته ويعجز العقل عن أن يحيط بكنهه يبقى مجهولا ، فحصل بين الشيء المطلوب بلفظ ما وبين الشيء العظيم مشابهة من هذا الوجه والمشابهة إحدى أسباب المجاز ، فبهذا الطريق جعل { ما } دليلا على عظمة حال ذلك المطلوب وعلو رتبته ومنه قوله تعالى { وما أدراك ما سجين } ، { وما أدراك ما العقبة } وتقول زيد وما زيد .

المسألة الخامسة : التساؤل هو أن يسأل بعضهم بعضا كالتقابل ، وقد يستعمل أيضا في أن يتحدثوا به ، وإن لم يكن من بعضهم لبعض سؤال ، قال تعالى : { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } { قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أئنك لمن المصدقين } فهذا يدل على معنى التحدث فيكون معنى الكلام عم يتحدثون ، وهذا قول الفراء .

المسألة السادسة : أولئك الذين كانوا يتساءلون من هم ، فيه احتمالات : ( أحدها ) : أنهم هم الكفار ، والدليل عليه قوله تعالى : { كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون } الضمير في يتساءلون ، وهم فيه مختلفون وسيعلمون ، راجع إلى شيء واحد وقوله : { كلا سيعلمون } تهديد والتهديد لا يليق إلا بالكفار ، فثبت أن الضمير في قوله : { يتساءلون } عائد إلى الكفار ، فإن قيل فما تصنع بقوله : { هم فيه مختلفون } مع أن الكفار كانوا متفقين في إنكار الحشر ؟ قلنا لا نسلم أنهم كانوا متفقين في إنكار الحشر ، وذلك لأن منهم من كان يثبت المعاد الروحاني ، وهم جمهور النصارى ، وأما المعاد الجسماني فمنهم من كان شاكا فيه كقوله : { وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } ومنهم من أصر على الإنكار ، ويقول : { إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين } ومنهم من كان مقرا به ، لكنه كان منكرا لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد حصل اختلافهم فيه ، وأيضا هب أنهم كانوا منكرين له لكن لعلهم اختلفوا في كيفية إنكاره ، فمنهم من كان ينكره لأنه كان ينكر الصانع المختار ، ومنهم من كان ينكره لاعتقاده أن إعادة المعدوم ممتنعة لذاتها والقادر المختار إنما يكون قادرا على ما يكون ممكنا في نفسه ، وهذا هو المراد بقوله : { هم فيه مختلفون } .

والاحتمال الثاني : أن الذين كانوا يتساءلون هم الكفار والمؤمنون ، وكانوا جميعا يتساءلون عنه ، أما المسلم فليزداد بصيرة ويقينا في دينه ، وأما الكافر فعلى سبيل السخرية ، أو على سبيل إيراد الشكوك والشبهات .

والاحتمال الثالث : أنهم كانوا يسألون الرسول ، ويقولون ما هذا الذي تعدنا به من أمر الآخرة .