مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{عَامِلَةٞ نَّاصِبَةٞ} (3)

أما قوله تعالى : { وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة } فاعلم أنه وصف لأهل الشقاوة ، وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : المراد بالوجوه أصحاب الوجوه وهم الكفار ، بدليل أنه تعالى وصف الوجوه بأنها خاشعة عاملة ناصبة ، وذلك من صفات المكلف ، لكن الخشوع يظهر في الوجه فعلقه بالوجه لذلك ، وهو كقوله : { وجوه يومئذ ناضرة } وقوله : { خاشعة } أي ذليلة قد عراهم الخزي والهوان ، كما قال : { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم } وقال : { وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي } وإنما يظهر الذل في الوجه ، لأنه ضد الكبر الذي محله الرأس والدماغ . وأما العاملة فهي التي تعمل الأعمال ، ومعنى النصب الدؤوب في العمل مع التعب .

المسألة الثانية : الوجوه الممكنة في هذه الصفات الثلاثة لا تزيد على ثلاثة ، لأنه إما أن يقال : هذه الصفات بأسرها حاصلة في الآخرة ، أو هي بأسرها حاصلة في الدنيا ، أو بعضها في الآخرة وبعضها في الدنيا ( أما الوجه الأول ) : وهو أنها بأسرها حاصلة في الآخرة فهو أن الكفار يكونون يوم القيامة خاشعين أي ذليلين ، وذلك لأنها في الدنيا تكبرت عن عبادة الله ، وعاملين لأنها تعمل في النار عملا تتعب فيه وهو جرها السلاسل والأغلال الثقيلة ، على ما قال : { في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا } وخوضها في النار كما تخوض الإبل في الوحل بحيث ترتقي عنه تارة وتغوص فيه أخرى والتقحم في حر جهنم والوقوف عراة حفاة جياعا عطاشا في العرصات قبل دخول النار في يوم كان مقداره ألف سنة ، وناصبين لأنهم دائما يكونون في ذلك العمل قال الحسن : هذه الصفات كان يجب أن تكون حاصلة في الدنيا لأجل الله تعالى ، فلما لم تكن كذلك سلطها الله عليهم يوم القيامة على سبيل العقاب ( وأما الوجه الثاني ) : وهو أنها بأسرها حاصلة في الدنيا ، فقيل : هم أصحاب الصوامع من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان والمجوس ، والمعنى أنها خشعت لله وعملت ونصبت في أعمالها من الصوم الدائب والتهجد الواصب ، وذلك لأنهم لما اعتقدوا في الله ما لا يليق به ، فكأنهم أطاعوا ذاتا موصوفة بالصفات التي تخيلوها فهم في الحقيقة ما عبدوا الله وإنما عبدوا ذلك المتخيل الذي لا وجود له ، فلا جرم لا تنفعهم تلك العبادة أصلا ( وأما الوجه الثالث ) : وهو أن بعض تلك الصفات حاصل في الآخرة وبعضها في الدنيا ففيه وجوه ( أحدها ) : أنها خاشعة في الآخرة ، مع أنها كانت في الدنيا عاملة ناصبة ، والمعنى أنها لم تنتفع بعملها ونصبها في الدنيا ، ولا يمتنع وصفهم ببعض أوصاف الآخرة ، ثم يذكر بعض أوصاف الدنيا ثم يعاد ذكر الآخرة ، إذا كان المعنى في ذلك مفهوما فكأنه تعالى قال : وجوه يوم القيامة خاشعة ، لأنها كانت في الدنيا عاملة ناصبة في غير طاعة الله ، فهي إذن تصلى نارا حامية في الآخرة ( ثانيها ) : أنها خاشعة عاملة في الدنيا ، ولكنها ناصبة في الآخرة ، فخشوعها في الدنيا خوفها الداعي لها إلى الإعراض عن لذائذ الدنيا وطيباتها ، وعملها هو صلاتها وصومها ونصبها في الآخرة هو مقاساة العذاب على ما قال تعالى :{ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } وقرئ عاملة ناصبة على الشتم .