مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ثُمَّ أَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَا وَعَذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ وَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (26)

واعلم أن قوله تعالى : { ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } يدل على أن الفعل موقوف على حصول الداعي ، ويدل على أن حصول الداعي ليس إلا من قبل الله تعالى .

أما بيان الأول : فهو أن حال انهزام القوم لم تحصل داعية السكون والثبات في قلوبهم ، فلا جرم لم يحصل السكون والثبات ، بل فر القوم وانهزموا . ولما حصلت السكينة التي هي عبارة عن داعية السكون والثبات رجعوا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وثبتوا عنده وسكنوا . فدل هذا على أن حصول الفعل موقوف على حصول الداعية .

وأما بيان الثاني : وهو أن حصول تلك الداعية من الله تعالى فهو صريح .

قوله تعالى : { ثم أنزل الله سكينته على رسوله } والعقل أيضا دل عليه ، وهو أنه لو كان حصول ذلك الداعي في القلب من جهة العبد ، لتوقف على حصول داع آخر ولزم التسلسل ، وهو محال .

ثم قال تعالى : { وأنزل جنودا لم تروها } واعلم أن هذا هو الأمر الثاني الذي فعله الله في ذلك اليوم ، ولا خلاف أن المراد إنزال الملائكة ، وليس في الظاهر ما يدل على عدة الملائكة كما هو مذكور في قصة بدر ، وقال سعيد بن جبير : أمد الله نبيه بخمسة آلاف من الملائكة ولعله إنما ذكر هذا العدد قياسا على يوم بدر ، وقال سعيد بن المسيب : حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال : لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم ، فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء ، تلقانا رجال بيض الوجوه حسان ، فقالوا شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا ، وأيضا اختلفوا أن الملائكة هل قاتلوا ذلك اليوم ؟ والرواية التي نقلناها عن سعيد بن المسيب تدل على أنهم قاتلوا ومنهم من قال إن الملائكة ما قاتلوا إلا يوم بدر . وأما فائدة نزولهم في هذا اليوم فهو إلقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين .

ثم قال تعالى : { وعذب الذين كفروا } وهذا هو الأمر الثالث الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم ، والمراد من هذا التعذيب قتلهم وأسرهم وأخذ أموالهم وسبي ذراريهم . واحتج أصحابنا بهذا على أن فعل العبد خلق الله ، لأن المراد من التعذيب ليس إلا الأخذ والأسر وهو تعالى نسب تلك الأشياء إلى نفسه وقد بينا أن قوله : { ثم أنزل الله سكينته على رسوله } يدل على ذلك فصار مجموع هذين الكلامين دليلا بينا ثابتا ، وفي هذه المسألة قالت المعتزلة : إنما نسب تعالى ذلك الفعل إلى نفسه لأنه حصل بأمره ، وقد سبق جوابه غير مرة .

ثم قال : { وذلك جزاء الكافرين } والمراد أن ذلك التعذيب هو جزاء الكافرين ، واعلم أن أهل الحقيقة تمسكوا في مسألة الجلد مع التعزيز بقوله : { الزانية والزاني فاجلدوا } قالوا الفاء تدل على كون الجلد جزاء ، والجزاء اسم للكافي ، وكون الجلد كافيا يمنع كون غيره مشروعا معه . فنقول : في الجواب عنه الجزاء ليس اسما للكافي ، وذلك باعتبار أنه تعالى سمى هذا التعذيب جزاء ، مع أن المسلمين أجمعوا على أن العقوبة الدائمة في القيامة مدخرة لهم ، فدلت هذه الآية على أن الجزاء ليس اسما لما يقع به الكفاية .