مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ أَعۡظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَآئِزُونَ} (20)

قوله تعالى : { الذين آمنوا وهاجروا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون } .

اعلم أنه تعالى ذكر ترجيح الإيمان والجهاد على السقاية وعمارة المسجد الحرام ، على طريق الرمز . ثم أتبعه بذكر هذا الترجيح على سبيل التصريح في هذه الآية ، فقال : إن من كان موصوفا بهذه الصفات الأربعة كان أعظم درجة عند الله ممن اتصف بالسقاية والعمارة . وتلك الصفات الأربعة هي هذه : فأولها الإيمان ، وثانيها الهجرة ، وثالثها الجهاد في سبيل الله بالمال ، ورابعها الجهاد بالنفس ، وإنما قلنا إن الموصوفين بهذه الصفات الأربعة في غاية الجلالة والرفعة لأن الإنسان ليس له إلا مجموع أمور ثلاثة : الروح ، والبدن ، والمال . أما الروح فلما زال عنه الكفر وحصل فيه الإيمان ، فقد وصل إلى مراتب السعادات اللائقة بها . وأما البدن والمال فبسبب الهجرة وقعا في النقصان ، وبسبب الاشتغال بالجهاد صارا معرضين للهلاك والبطلان . ولا شك أن النفس والمال محبوب الإنسان ، والإنسان لا يعرض عن محبوبه إلا للفوز بمحبوب أكمل من الأول ، فلولا أن طلب الرضوان أتم عندهم من النفس والمال ، وإلا لما رجحوا جانب الآخرة على جانب النفس والمال ولما رضوا بإهدار النفس والمال لطلب مرضاة الله تعالى . فثبت أن عند حصول الصفات الأربعة صار الإنسان واصلا إلى آخر درجات البشرية وأول مراتب درجات الملائكة ، وأي مناسبة بين هذه الدرجة وبين الإقدام على السقاية والعمارة لمجرد الاقتداء بالآباء والأسلاف ولطلب الرياسة والسمعة ؟ فثبت بهذا البرهان اليقين صحة قوله تعالى : { الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون } .

واعلم أنه تعالى لم يقل أعظم درجة من المشتغلين بالسقاية والعمارة لأنه لو عين ذكرهم لأوهم أن فضيلتهم إنما حصلت بالنسبة إليهم ، ولما ترك ذكر المرجوح ، دل ذلك على أنهم أفضل من كل من سواهم على الإطلاق ، لأنه لا يعقل حصول سعادة وفضيلة للإنسان أعلى وأكمل من هذا الصفات .

واعلم أن قوله : { عند الله } يدل على أن المراد من كون العبد عند الله الاستغراق في عبوديته وطاعته ، وليس المراد منه العندية بحسب الجهة والمكان ، وعند هذا يلوح أن الملائكة كما حصلت لهم منقبة العندية في قوله : { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته } فكذلك الأرواح القدسية البشرية إذا تطهرت عن دنس الأوصاف البدنية والقاذورات الجسدانية ، أشرقت بأنوار الجلالة وتجلى فيها أضواء عالم الكمال وترقت من العبدية إلى العندية ، بل كأنه لا كمال في العبدية إلا مشاهدة حقيقة العندية ، ولذلك قال : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا }

فإن قيل : لما أخبرتم أن هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين ، فكيف قال في وصفهم { أعظم درجة } مع أنه ليس للكفار درجة ؟

قلنا : الجواب عنه من وجوه : الأول : أن هذا ورد على حسب ما كانوا يقدرون لأنفسهم من الدرجة والفضيلة عند الله ، ونظيره قوله : { قل آلله خير أما يشركون } وقوله : { أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم } الثاني : أن يكون المراد أن أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفا بهذه الصفات ، تنبيها على أنهم لما كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى . الثالث : أن يكون المراد أن المؤمن المجاهد المهاجر أفضل ممن على السقاية والعمارة والمراد منه ترجيح تلك الأعمال على هذه الأعمال ، ولا شك أن السقاية والعمارة من أعمال الخير ، وإنما بطل إيجابهما للثواب في حق الكفار لأن قيام الكفر الذي هو أعظم الجنايات يمنع ظهور ذلك الأثر .

واعلم أنه تعالى لما بين أن الموصوفين بالإيمان والهجرة أعظم درجة عند الله بين تعالى أنهم هم الفائزون وهذا للحصر ، والمعنى أنهم هم الفائزون بالدرجة العالية الشريفة المقدسة التي وقعت الإشارة إليها بقوله تعالى : { عند ربهم } وهي درجة العندية ، وذلك لأن من آمن بالله وعرفه فقل أن يبقى قلبه ملتفتا إلى الدنيا ، ثم عند هذا يحتال إلى إزالة هذه العقدة عن جوهر الروح ، وإزالة حب الدنيا لا يتم له إلا بالتفريق بين النفس وبين لذات الدنيا ، فإذا دام ذلك التفريق وانتقص تعلقه بحب الدنيا ، فهذا التفريق والنقص يحصلان بالهجرة . ثم إنه بعده لا بد من استحقار الدنيا والوقوف على معايبها وصيرورتها في عين العاقل بحيث يوجب على نفسه تركها ورفضها ، وذلك إنما يتم بالجهاد لأنه تعريض النفس والمال للهلاك والبوار ، ولولا أنه استحقر الدنيا وإلا لما فعل ذلك ، وعند هذا يتم ما قاله بعض المحققين وهو أن العرفان مبتدأ من تفريق ونقص وترك ورفض ، ثم عند حصول هذه الحالة يصير القلب مشتغلا بالنظر إلى صفات الجلال والإكرام ، وفي مشاهدتها يحصل بذل النفس والمال ، فيصير الإنسان شهيدا مشاهدا لعالم الجلال مكاشفا بنور الجلالة مشهودا له بقوله تعالى : { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا } وعند هذا يحصل الانتهاء إلى حضرة الأحد الصمد ، وهو المراد من قوله : { عند ربهم } وهناك يحق الوقوف في الوصول .