{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إبراهيم والذين مَعَهُ } تأكيد لأمر الإنكار عليهم والتخطئة في موالاة الكفار بقصة إبراهيم عليه السلام ومن معه ليعلم أن الحب في الله تعالى والبغض فيه سبحانه من أوثق عرا الإيمان فلا ينبغي أن يغفل عنهما ، والأسوة بضم الهمزة وكسرها وهما لغتان ، وبالكسر قرأ جميع القراء إلا عاصماً وهي بمعنى الائتساء والاقتداء ، وتطلق على الخصلة التي من حقها أن يؤتسى ويقتدى بها ، وعلى نفس الشخص المؤتسى به ، ففي زيد أسوة من باب التجريد نحو
. وللضعفاء في الرحمن كاف *** وفي البيضة عشرون مناً حديد وكل من ذلك قيل : محتمل في الآية ، ورجح إرادة الخصلة لأن الاستثناء الآتي عليها أظهر ، و { لَكُمْ } للبيان متعلق بمحذوف كما في سقياً لك ، أو هو متعلق بكان على رأي من يجوز تعلق الظرف بها ، { وأسوة } اسمها و { تُصِبْكَ حَسَنَةٌ } صفته ، و { في إبراهيم } خبرها ، أو { لَكُمْ } هو الخبر ، و { في إبراهيم } صفة بعد صفة لأسوة أو خبر بعد خبر لكان أو حال من المستكن في { لَكُمْ } على ما قيل ، أو في { حَسَنَةٌ } ولم يجوز كون صلة { أُسْوَةٌ } بناءاً على أنها مصدر ، أو اسمه وهو إذا وصف لا يعمل مطلقاً لضعف شبهه بالفعل ، قيل : وإذا قلنا : إنها ليست مصدراً ولا اسمه ، أو قلنا : إنه يغتفر عمله وإن وصف قبل العمل في الظرف للاتساع فيه جاز ذلك .
والظاهر أن المراد بالذين معه عليه السلام أتباعه المؤمنون لكن قال الطبري . وجماعة : المراد بهم الأنبياء الذين كانوا قريباً من عصره عليه وعليهم الصلاة والسلام لأنه عليه السلام لم يكن معه وقت مكافحته قومه وبراءته منهم أتباع مؤمنون كافحوهم معه وتبرءوا منهم ، فقد روى أنه قال لسارة حين رحل إلى الشام مهاجراً من بلد نمروذ : ما على الأرض من يعبد الله تعالى غيري وغيرك ، وأنت تعلم أنه لا يلزم وجود الاتباع المؤمنين في أول وقت المكافحة بل اللازم وجودهم ولو بعد ، ولا شك في أنهم وجدوا بعد فليحمل من معه عليهم ، ويكون التبري المحكي في قوله تعالى : { إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مّنْكُمْ } الخ وقت وجودهم ، { وَإِذْ } قيل : ظرف لخبر { كَانَ } والعامل الجار والمجرور أو المتعلق ، أو لكان نفسها على ما مر ، أو بدل من { أُسْوَةٌ } { وبرآء } جمع بريء كظريف وظرفاء .
وقرأ الجحدري { إِنَّنِي بَرَاء } كظراف جمع ظريف أيضاً ، وقرأ أبو جعفر { بَرَاء } بضم الباء كتؤام وظؤار ، وهو اسم جمع الواحد بريء وتوام وظئر ، وقال الزمخشري : إن ذلك على إبدال الضم من الكسر كرخال بضم الراء جمع رخل ، وتعقب بأنه ضم أصلي ، والصيغة من أوزان أسماء الجموع ، وليس ذلك جمع تكسير فتكون الضمة بدلاً من الكسرة ؛ ورويت هذه القراءة عن عيسى ، قال أبو حاتم : زعموا أنه عيسى الهمداني وعنه { بَرَاء } على فعال كالذي في قوله تعالى : { إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ } في الزخرف ، وهو مصدر على فعال يوصف به المفرد وغيره ، وتأكيد الجملة لمزيد الاعتناء بشأنها ، أو لأن قومهم المشركين مستبعدون ذلك شاكون فيه حيث يحسبون أنفسهم على شيء وكأنهم استشعروا ذلك منهم فقالوا لهم : { إنا بَرآء مّنكُمْ } .
{ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } من الأصنام والكواكب وغيرها { كَفَرْنَا بِكُمْ } بان لقوله سبحانه : { إنا بَرآء } إلى آخره فهو على معنى كفرنا بكم وبما تعبدون من دون الله ، ويكون المراد { بِكُمْ } القوم ومعبوديهم بتغليب المخاطبين ، والكفر بذلك مجاز أو كناية عن عدم الاعتداد فكأنه قيل : إنا لا نعتد بشأنكم ولا بشأن آلهتكم وما أنتم عندنا على شيء .
وفي «الكشف » أن الأصل كفرنا بما تعبدون ثم كفرنا بكم وبما تعبدون لأن من كفر بما أتى به الشخص فقد كفر به ، ثم اكتفي بكفرنا بكم لتضمنه الكفر بجميع ما أتوا به وما تلبسوا به لاسيما وقد تقدمه { إنا بَرآء } فسر بأنا لا نعتد الخ تنبيهاً على أنه تهكم بهم فإن ذلك لا يسمى كفراً لغة وعرفاً وإنما هو اسم يقع على أدخل الأشياء في الاستهجان والذم ، وما ذكرناه أقرب ، وهو معنى ما في «الكشاف » دونه ، وأما ما قيل : إن في الكلام معطوفاً على الجار والمجرور محذوفاً أي بكم وبما تعبدون ، وحذف اكتفاءاً بدلالة السياق فليس بشيء .
{ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء أَبَداً } أي هذا دأبنا معكم لا نتركه { حتى تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ } وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك فتنقلب العداوة ولاية والبغضاء محبة ، وفسر الفيروزأبادي { البغضاء } بشدة البغض ضد الحب ، وأفاد أن العداوة ضد الصداقة ، وفسر الصداقة بالمحبة ، فالعداوة والبغضاء على هذا متقاربان ، وأفاد الراغب أن العداوة منافاة الالتئام قلباً ، وقال : البغض نفار النفس عن الشيء الذي ترغب عنه وهو ضد الحب ، ثم قال : يقال : بغض الشيء بغضاً وبعضة وبغضاء ، وهو نحو كلام الفيروزأبادي ، والذي يفهم من كلام غير واحد أنه كثيراً ما يعتبر في العداوة التخاذل دون البغضاء فليراجع هذا المطلب .
{ إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لأبيه لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } استثناء من قوله تعالى : { أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } كما قاله قتادة . وجماعة وهو على تقدير التجريد أو تفسيراً لأسوة بالاقتداء منقطع بلا ريب ، وأما على تقدير أن يراد بها ما يؤتسى به فقيل : هو متصل ؛ وقيل : منقطع ، وإليه ذهب الأكثر ، وتوجيه الاستثناء إلى العدة بالاستغفار لا إلى نفس الاستغفار المحكى عنه عليه السلام بقوله تعالى : { واغفر لأِبِي } [ الشعراء : 86 ] الآية مع أنه المراد قيل : لأنها كانت هي الحاملة له عليه السلام عليه ، ويعلم من ذلك استثناء نفس الاستغفار بطريق الأولى ، وجعلها بعضهم كناية عن الاستغفار لأن عدة الكريم خصوصاً مثل إبراهيم عليه السلام لاسيما إذا أكدت بالقسم يلازمها الانجاز وليس بلازم كما لا يخفي ، وكأن هذه العدة غير العدة السابقة في سورة مريم في قوله تعالى حكاية عنه عليه السلام : { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي } الآية ولعلها وقعت منه عليه السلام بعد تلك تأكيداً لها وحكيت ههنا على سبيل الاستثناء .
وفي «الإرشاد » تخصيصها بالذكر دون ما وقع في سورة «مريم » لورودها على طريق التوكيد القسمي ، واستثناء ذلك من الأسوة الحسنة قيل : لأن استغفاره عليه السلام لأبيه الكافر بمعنى أن يوفقه الله تعالى للتوبة ويهديه سبحانه للإيمان وإن كان جائزاً عقلاً وشرعاً لوقوعه قبل تبين أنه من أصحاب الجحيم وأنه يموت عل الكفر كما دل عليه ما في سورة التوبة لكنه ليس مما ينبغي أن يؤتسى به أصلاً إذ المراد به ما يجب الائتساء به حتماً لورود الوعيد على الاعراض عنه بقوله تعالى بعد : { وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد } [ الممتحنة : 6 ] فاستثناؤه عما سبق إنما يفيد عدم وجوب استدعاء الإيمان والمغفرة للكافر المرجوّ إيمانه ، وذلك مما لا يرتاب فيه عاقل ، وأما عدم جوازه فلا دلالة للاستثناء عليه قطعاً ، وزعم الإمام على ما نقل عنه دلالة الآية على ذلك ، ولا يلزم أن يكون الاستغفار منه عليه السلام معصية لأن كثيراً من خواص الأنبياء عليهم السلام لا يجوز التأسي به لأنه أبيح لهم خاصة وهو كما ترى إذ هو ظاهر في أن ذلك الاستغفار الذي وقع منه عليه السلام لو فرض واقعاً من غيره لكان معصية وليس كذلك بل هو مباح ممن وقع .
وعن الطيبي ما حاصله : إن إبراهيم عليه السلام لما أجاب قول أبيه : { لأرْجُمَنَّكَ واهجرني مَلِيّاً } [ مريم : 46 ] بقوله : { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي } [ مريم : 47 ] رحمة ورأفة به ، ولم يكن عارفاً بإصراره على الكفر وفي بوعده ، وقال : { واغفر لاِبِى } [ الشعراء : 86 ] فلما تبين إصراره ترك الدعاء وتبرأ منه ، فظهر أن استغفاره لم يكن منكراً ، وهو في حياته بخلاف ما نحن فيه فإنه فصل عداوتهم وحرصهم على قطع أرحامهم بقوله تعالى : { لَن تَنفَعَكُمْ } [ الممتحنة : 3 ] الخ وسلاحهم عن القطيعة بقصة إبراهيم عليه السلام ثم استثنى منها ما ذكر كأنه قيل : لا تجاملوهم ولا تبدوا لهم الرأفة كما فعل إبراهيم لأنه لم يتبين له كما تبين لكم انتهى ، وفيه رمز إلى احتمال أن يكون المستثنى نفس العدة من حيث دلالتها على الرأفة والرحمة ، ومآل ذلك استثناء الرأفة والرحمة ، وعلل بعض الأجلة عدم كون استغفاره عليه السلام لأبيه الكافر مما لا ينبغي أن يؤتسى به بأنه كان قبل النهي أو لموعدة وعدها إياه ؛ وتعقب الثاني بأن الوعد بالمحظور لا يرفع حظره ، والأول بأنه مبني على تناول النهي لاستغفاره عليه السلام له مع أن النهي إنما ورد في شأن الاستغفار بعد تبين الأمر ، وقد كان استغفاره عليه السلام قبل ، ومنبئ عن كون الاستغفار مؤتسى به لو لم ينه عنه مع أن ما يؤتسى به ما يجب الائتساء به لا ما يجوز فعله في الجملة ، وأجيب بما لا يرفع القال والقيل ؛ فالأولى التعليل بما سبق .
واستظهر أبو حيان أن الاستثناء من مضاف لإبراهيم مقدر في نظم الآية الكريمة أي لقد كان لكم أسوة حسنة في مقالات إبراهيم ومحاوراته لقومه { إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم } الخ ، وجزم باتصال الاستثناء عليه ، وكذا جزم الطيبي باتصاله على قول البغوي أي لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره إلا في استغفاره لأبيه المشرك ، ولا يخفي أن التقدير خلاف الظاهر ، ومتى ارتكب فالأولى تقدير أمور ، بقي أنه قيل : إن الآية تدل على منع التأسي بإبراهيم عليه السلام في الاستغفار للكافر الحي مع أنه بالمعنى السابق أعني طلب الإيمان له لا منع عنه .
وأجيب بأنه إنما منع من التأسي بظاهره وظن أنه جائز مطلقاً كما وقع لبعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وفيه أنه قد تقدم أن دلالة الآية على أن الاستغفار ليس مما يجب الائتساء به حتماً لا على منعه وحرمته ، ثم إنه ينبغي أن يعلم أن تبين كون أبيه من أصحاب الجحيم الذي كان الاستغفار قبله كان في الدنيا وكذا التبري منه بعده ، وقد تقدم في سورة التوبة قول : بكون ذلك في الآخرة لدلالة ظواهر بعض الأخبار الصحيحة عليه فإنها دالة على أنه عليه السلام يشفع لأبيه يوم القيامة ، وهي استغفار أي استغفار فيه ، ولو كان تبين أنه يموت كافراً في الدنيا لم يكن ليشفع ، ويطلب على أتم وجه المغفرة له ضرورة أنه عليه السلام عالم أن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به ، وإنكار ذلك مما لا يكاد يقدم عليه عاقل ، والذاهبون إلى أن لتبين كان في الدنيا كما عليه سلف الأمة وهو الصحيح الذي أجزم به اليوم أشكلت عليهم تلك الظواهر من حيث دلالتها على الشفاعة التي هي في ذلك اليوم استغفار ، واتهموا وأنجدوا في الجواب عنها ، وقد تقدم جميع ما وجدته لهم فارجع إليهم واختر لنفسك ما يحلو .
ثم إني أقول الذي يغلب على ظني أن الاستغفار الذي كان منه عليه السلام قبل التبين بالمعنى المشهور لا بمعنى التوفيق للإيمان ، والآيات التي في سورة التوبة وما ورد في سبب نزولها تؤيد ظواهرها ذلك .
والتزم أن امتناع جواز الاستغفار إنما علم بالوحي لا بالعقل لأنه يجوز أن يغفر الله تعالى للكافر وهو سبحانه الغفور الرحيم ، وأنه عليه السلام لم يكن إذا استغفر عالماً بالوحي امتناعه ، ومعنى الآية والله تعالى أعلم إن لكم الاقتداء بإبراهيم عليه السلام والذين معه في البراءة من الكفرة لكن استغفاره للكافر ليس لكم الاقتداء به فيه ومآله يجب عليكم البراءة ويحرم عليكم الاستغفار وإبداء الرأفة ، فليس لكم الذي اعتبرناه في الاستثناء من باب قوله تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ } [ التوبة : 113 ] الخ ، ودلالة ذلك على المنع ظاهرة فتأمل جميع ما قدمناه ، ووراءه كلام مبني على قول من قال : ليس لله عز وجل قضاء مبرم ، ونقل ذلك عن القطب الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره ، وشيد بعض الأجلة أركانه في رسائل مستقلة بسط فيها الأدلة على ذلك لكنها لا تخلو عن بحث والله تعالى أعلم ، وقوله سبحانه : { وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَىْء } من تمام القول المستثنى محله النصب على أنه حال من فاعل { لاَسْتَغْفِرَنَّ } ومورد الاستثناء نفس الاستغفار لا قيده فإنه في نفسه من خصال الخير لكونه إظهاراً للعجز وتفويضاً للأمر إلى الله تعالى ، فالكلام من قبيل ما رجع فيه النفي للمقيد دون القيد .
وفي «الكشف » أنه وإن كان في نفسه كلاماً مطابقاً للواقع حسناً أن يجعل أسوة إلا أنه شفع بقوله : { لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } تحقيقاً للوعد كأنه قيل : لأستغفرن لك وما في طاقتي إلا هذا فهو مبذول لا محالة ، وفيه أنه لو ملك أكثر من ذلك لفعل ، وعلى هذا فهو حقيق بالاستثناء ، وقوله عز وجل :
{ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصير } إلى آخره جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب متصلة معنى بقصة إبراهيم عليه السلام ومن معه على أنها بيان لحالهم في المجاهدة لأعداء الله عز وجل وقشر العصا ، ثم اللجأ إلى الله تعالى في كفاية شرهم وأن تلك منهم له عز وجل لا لحظ نفسي ، وقيل : اتصالها بما تقدم لفظي على أنها بتقدير قول معطوف على { قَالُواْ إِنَّآ بَرَاء } أي وقالوا : ربنا الخ ، وجوز أن يكون المعنى قولوا ربنا أمراً منه تعالى للمؤمنين بأن يقولوه ، وتعليماً منه عز وجل لهم وتتميماً لما وصاهم سبحانه به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار والائتساء بإبراهيم عليه السلام وقومه في البراءة منهم وتنبيهاً على الإنابة إلى الله تعالى والاستعاذة به من فتنة أهل الكفر والاستغفار مما فرط منهم وهو كما قيل : وجه حسن لا يأباه النظم الكريم ، وفيه شمة من أسلوب { انتهوا خَيْراً لَّكُمْ } [ النساء : 171 ] لأنه سبحانه لما حثهم على الائتساء بمن سمعت في الانتهاء عن الكفر وموالاة أهله ، ثم قال سبحانه ما يدل على اللجأ إليه تعالى يكون في المعنى نهياً عن الأول وأمراً بالثاني .
وجعل بعضهم القول على هذا الوجه معطوفاً على { لاَ تَتَّخِذُواْ } أي وقولوا ربنا الخ ، وأياً مّا كان فتقديم الجار والمجرور في المواضع الثلاثة للقصر كأنه قيل : ربنا عليك توكلنا لا على غيرك وإليك أنبنا لا إلى غيرك وإليك المصير لا إلى غيرك .
قد كانت لكم يا معشر المؤمنين { أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أي : قدوة صالحة وائتمام ينفعكم ، { فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } من المؤمنين ، لأنكم قد أمرتم أن تتبعوا ملة إبراهيم حنيفا ، { إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي : إذ تبرأ إبراهيم عليه السلام ومن معه من المؤمنين ، من قومهم المشركين ومما يعبدون من دون الله .
ثم صرحوا بعداوتهم غاية التصريح ، فقالوا : { كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا } أي : ظهر وبان ، { بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ } أي : البغض بالقلوب ، وزوال مودتها ، والعداوة بالأبدان ، وليس لتلك العداوة والبغضاء وقت ولا حد ، بل ذلك { أَبَدًا } ما دمتم مستمرين على كفركم { حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } أي : فإذا آمنتم بالله وحده ، زالت العداوة والبغضاء ، وانقلبت مودة وولاية ، فلكم أيها المؤمنون أسوة [ حسنة ] في إبراهيم ومن معه في القيام بالإيمان والتوحيد ، والقيام بلوازم ذلك ومقتضياته ، وفي كل شيء تعبدوا به لله وحده ، { إِلَّا } في خصلة واحدة وهي { قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ } آزر المشرك ، الكافر ، المعاند ، حين دعاه إلى الإيمان والتوحيد ، فامتنع ، فقال إبراهيم : { لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ و } الحال أني لا { أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } لكني أدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا ، فليس لكم أن تقتدوا بإبراهيم في هذه الحالة التي دعا بها للمشرك ، فليس لكم أن تدعوا للمشركين ، وتقولوا : إنا في ذلك متبعون لملة إبراهيم ، فإن الله ذكر عذر إبراهيم في ذلك بقوله : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إن إبراهيم لأواه حليم }
ولكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه ، حين دعوا الله وتوكلوا عليه وأنابوا إليه ، واعترفوا بالعجز والتقصير ، فقالوا : { رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا } أي : اعتمدنا عليك في جلب ما ينفعنا ودفع ما يضرنا ، ووثقنا بك يا ربنا في ذلك .
{ وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا } أي : رجعنا إلى طاعتك ومرضاتك وجميع ما يقرب إليك ، فنحن في ذلك ساعون ، وبفعل الخيرات مجتهدون ، ونعلم أنا إليك نصير ، فسنستعد للقدوم عليك ، ونعمل ما يقربنا الزلفى إليك{[1053]} .
قوله تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير 4 ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم 5 لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } .
يحذر الله المؤمنين من موادعة الكافرين وموادتهم أو الإسرار إليهم بأخبار إخوانهم خشية على أقاربهم وأموالهم ومصالحهم . فليس على المؤمنين المتّقين الذين أخلصوا دينهم لله إلا أن يجافوا أعداء الله فلا يوادوهم ولا يصانعوهم . وإنما عليهم أن يقتدوا بخليل الله إبراهيم ( عليه السلام ) والذين آمنوا معه ، إذ تبرأوا من قومهم الكافرين . وإنما يتبرأ المؤمن الصادق من الكفر والكافرين فيتخلص بقلبه وإحساسه ومشاعره وهواه من أحوالهم وأوضاعهم وأهوائهم وتصوراتهم . فلا يوالي حينئذ غير الؤمنين وهم إخوانه في الدين والعقيدة .
وهو قوله سبحانه : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه } يعني لقد كان لكم أيها المؤمنون قدوة حسنة في خليل الله إبراهيم فتقتدون به وبالذين آمنوا معه { إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله } قالوا لقومهم الكافرين عبدة الأوثان والطواغيت : لقد تبرأنا منكم ومن عبادتكم الباطلة . ومما تعبدون من الأرباب المصطنعة { كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا } أي أنكرنا ما أنتم عليه من الشرك والباطل وجحدنا كفركم وضلالكم ، وظهر بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا بسبب كفركم وجحودكم ومجانبتكم سبيل ربكم وتلبسكم بالضلال والباطل ، فنحن أبرياء منكم ومما تعبدون { حتى تؤمنوا بالله وحده } لا موادة بيننا وبينكم حتى تفيئوا إلى عقيدة الحق ، عقيدة التوحيد الخالص لله ، وعبادته وحده دون غيره من الشركاء والأنداد .
قوله : { إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } قول ، منصوب ، لأنه مستثنى من قوله : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم } {[4515]} يعني كانت لكم في إبراهيم ، والذين معه من المؤمنين قدوة حسنة في مجانية قومهم الكافرين ومعاداتهم وعدم موالاتهم باسثناء قول إبراهيم لأبيه { لأستغفرن لك } فإنه لا أسوة لكم في مثل هذا الاستغفار فتستغفروا للمشركين ، لأن استغفار إبراهيم إنما كان عن موعدة وعدها إياه ثم ما لبث أن تبرأ منه لما استبان له أن أباه عدو لله بكفره . وعلى هذا ليس للمسلمين أن يتأسوا بإبراهيم في الاستغفار لأبيه المشرك .
قوله : { وما أملك لك من الله من شيء } يعني وما أغني عنك من الله شيئا أو ما أدفع عنك شيئا من عذاب الله إن أراد الله أن يعذبك .
قوله : { ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير } وهذا من دعاء إبراهيم وتضرعه وإنابته إلى ربه ، إذ قال : { ربنا عليك توكلنا } أي اعتمدنا عليك وفوضنا كل أمورنا إليه { وإليك أنبنا } من الإنابة أي الرجوع . يعني رجعنا إلى جنابك طائعين تائبين منقادين { وإليك المصير } إليك المآب والمرجع يوم القيامة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه} من المؤمنين، {إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله} من الآلهة، {كفرنا بكم} يقول تبرأنا منكم {وبدا} يعني وظهر {بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده} يعني تصدقوا بالله وحده، {إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك}، يقول الله: تبرموا من كفار قومكم فقد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه من المؤمنين في البراءة من قومهم وليس لكم أسوة حسنة في الاستغفار للمشركين، يقول إبراهيم: لأستغفرن لك، وإنما كانت موعده وعدها أبو إبراهيم إياه أنه يؤمن فلما تبين له عند موته أنه عد الله تبرأ منه حين مات على الشرك، وحجب عنه الاستغفار.
ثم قال إبراهيم: {وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد كان لكم أيها المؤمنون أُسوة حسنة: يقول: قدوة حسنة في إبراهيم خليل الرحمن، تقتدون به، والذين معه من أنبياء الله...
وقوله: {إذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إنّا بُرآءُ مِنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ} يقول: حين قالوا لقومهم الذين كفروا بالله، وعبدوا الطاغوت: أيها القوم إنا برآء منكم، ومن الذين تعبدون من دون الله من الاَلهة والأنداد.
وقوله: {كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ العَدَاوَةُ والبَغْضَاءُ أبَدا حتى تُؤمِنُوا باللّهِ وَحْدَهُ} يقول جلّ ثناؤه مخبرا عن قيل أنبيائه لقومهم الكفرة: كفرنا بكم، أنكرنا ما كنتم عليه من الكفر بالله وجحدنا عبادتكم ما تعبدون من دون الله أن تكون حقا، وظهر بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا على كفركم بالله، وعبادتكم ما سواه، ولا صلح بيننا ولا هوادة، حتى تؤمنوا بالله وحده، يقول: حتى تصدّقوا بالله وحده، فتوحدوه، وتفردوه بالعبادة.
وقوله: {إلاّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنّ لَكَ وَما أمْلِكُ لَكَ مِنْ الله مِنْ شَيْءٍ} يقول تعالى ذكره: قد كانت لكم أُسوة حسنة في إبراهيم والذين معه في هذه الأمور التي ذكرناها من مباينة الكفار ومعاداتهم، وترك موالاتهم إلا في قول إبراهيم لأبيه لأَسْتَغْفِرَنّ لَكَ فإنه لا أسوة لكم فيه في ذلك، لأن ذلك كان من إبراهيم لأبيه عن موعدة وعدها إياه قبل أن يتبين له أنه عدوّ الله، فلما تبين له أنه عدّو لله تبرأ منه. يقول تعالى ذكره: فكذلك أنتم أيها المؤمنون بالله، فتبرّؤوا من أعداء الله من المشركين به ولا تتخذوا منهم أولياء يؤمنوا بالله وحده ويتبرّؤوا عن عبادة ما سواه وأظهروا لهم العداوة والبغضاء...
ويعني بقوله: {وَما أمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ} يقول: وما أدفع عنك من الله من عقوبة، إن الله عاقبك على كفرك به، ولا أُغُنِي عنك منه شيئا.
وقوله: {رَبّنا عَلَيْكَ تَوَكّلْنا} يقول جلّ ثناؤه مخبرا عن قيل إبراهيم وأنبيائه صلوات الله عليهم: {رَبّنَا عَلَيْكَ تَوَكّلْنا وَإلَيْكَ أنْبْنا} يعني: وإليك رجعنا بالتوبة مما تكره إلى ما تحبّ وترضى، {وَإلَيْكَ المَصِيرُ} يقول: وإليك مصيرنا ومرجعنا يوم تبعثنا من قبورنا، وتحشرنا في القيامة إلى موقف العَرْض.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الأصل في أنباء المتقدمين أنها عبر لهذه الأمة. فما ذكر منها في المؤمنين من الأمم الماضية فهو تخويف لكفرة هذه الأمة لئلا يصنعوا مثل صنيعهم، فيستوجبوا من النقمة مثل ما استوجب أولئك. وما كان منها في حق الرسل صلى الله عليه وسلم فهو في حق التسلي لرسولنا وسيدنا صلى الله عليه وسلم عن بعض ما مسه...
فكأنه قال: اقتدوا بهم إلا بما قال إبراهيم لأبيه: {لأستغفرن لك} يعني لا تستغفروا للمشركين مثل ما استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه المشرك، لأنكم لا تعلمون المعنى الذي له استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه. ثم اختلفوا في المعنى الذي له استغفر إبراهيم لأبيه، فقال أبو بكر: إنه كان، صلوات الله عليه، وعد أن يستغفر لأبيه، ورأى أن إيجاب الوعد لازم عليه، فاستغفر لهذا المعنى. [وقال] الحسن: إنه إنما استغفر له لوقت توبته لا في حال الشرك، لأنه لا يتوهم أنه [لم يعلم أنه] لا يحل له أن يستغفر للمشركين. وعلم أنه يحل له لم يكن مسلما مؤمنا فثبت أنه إنما استغفر لوقت إسلامه. وعندنا الاستغفار طلب المغفرة من الله تعالى على وجهين: أحدهما: مغفرة رحمة وفضل وكرم. والثاني: أن يوفقه للسبب الذي إذا جاء به غفر له. ألا ترى إلى قوله: {استغفروا ربكم إنه كان غفارا}؟ [نوح: 10] أي السبب الذي إذا جئتم به غفر لكم. وإذا كان كذلك جاز أن يكون استغفار إبراهيم لأبيه على هذا الوجه: أن يكون طلب من الله تعالى التوفيق له بالسبب الذي إذا جاء به غفر له، وذلك مستقيم، ولكنه لما تبين أنه لا يوفقه لذلك السبب تبرأ منه...
{وما أملك لك من الله من شيء} أي لا أملك أن أدفع عنك عذاب الله من شيء، أو لا أملك أن أهديك دون أن يهديك الله...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
والفائدةُ في هذه الآية تخفيفُ الأمر على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بتعريفهم أنَّ مَنْ كانوا قبلهم حين كَذَّبوا بأنبيائهم أهلكهم الله، وأنهم صبروا، وأنه ينبغي لذلك أن يكونَ بالصبرِ أمرُهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ومعنى {كَفَرْنَا بِكُمْ} وبما تعبدون من دون الله: أنا لا نعتدّ بشأنكم ولا بشأن آلهتكم، وما أنتم عندنا على شيء. قوله {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شيء} كأنه قال: أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار. ويجوز أن يكون المعنى: قولوا ربنا، أمراً من الله تعالى للمؤمنين بأن يقولوه، وتعليماً منه لهم تتميماً لما وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار، والائتساء بإبراهيم وقومه في البراءة منهم، وتنبيهاً على الإنابة إلى الله والاستعاذة به من فتنة أهل الكفر، والاستغفار مما فرط منهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قد كانت} أي وجدت وجوداً تاماً، وكان تأنيث الفعل إشارة إلى الرضا بها ولو كانت على أدنى الوجوه {لكم} أي أيها المؤمنون {أسوة} أي موضع اقتداء وتأسية وتسنن وتشرع وطريقة مرضية {حسنة} يرغب فيها {في إبراهيم} أي في قول أبي الأنبياء {والذين معه} أي ممن كانوا قبله من الأنبياء...
{إنا} أي من غير وقفة ولا شك {برآء} أي متبرئون تبرئة عظيمة {منكم} وإن كنتم أقرب الناس إلينا ولا ناصر لنا منهم غيركم. ولما تبرؤوا منهم أتبعوه ما هو أعظم عندهم منهم وهو سبب العداوة فقالوا: {ومما تعبدون} أي توجدون عبادته في وقت من الأوقات الماضية المفيد التعبير عنها بالمضارع تصوير الحال أو الحاضرة أو الآتية كائناً من كان لا يخاف شيئاً من ذلك لأن إلهنا الذي قاطعنا كل شيء في الانقطاع إليه لا يقاويه شيء، ولا تقدرون أنتم مع إشراككم به على البراءة منه...
. {من دون الله} أي الملك الأعظم الذي هو كاف لكل مسلم. ولما كانت البراءة على أنحاء كثيرة، بينوا أنها براءة الدين الجامعة لكل براءة فقالوا: {كفرنا بكم} أي أوجدنا الستر لكل ما ينبغي ستره حال كوننا مكذبين بكل ما يكون من جهتكم من دين وغيره الذي يلزم منه الإيمان، وهو إيقاع الأمان من التكذيب لمن يخبرنا بسبب كل ما يضاده مصدقين بذلك...
{وبدا} أي ظهر ظهوراً عظيماً، وعلى عظمتها بالدلالة بنزع الخافض على أنها شاحنة لجميع البينين فقال: {بيننا وبينكم} أي في جمع الحد الفاصل بين كل واحد منا وكل واحد منكم {العداوة} وهي المباينة في الأفعال بأن يعدو كل على الآخر ولا يكون ذلك إلا عندما يستخف الغيظ الإنسان لإرادة أن يشفي صدره من شدة ما حصل له من حرارة الخنق. فالعداوة بما تمتد فتكون مالئة لظرفها ولما كان ذلك قد يكون لغير البغض بل لتأديب ونحوه قالوا: {والبغضاء} أي وهي المباينة بالقلوب بالبغض العظيم. ولما كان ذلك قد يكون سريع الزوال قالوا: {أبداً} ولما كان ذلك مرئياً من صلاح الحال، وكان قد يكون لحظ نفس بينوا غايته على وجه عرفت به علته بقولهم: {حتى تؤمنوا} أي توقعوا الأمان من التكذيب لمن أمركم بالإيمان وأخبركم عن الرحمان، حال كونكم مصدقين ومعترفين {بالله} أي الملك الذي له الكمال كله. ولما كانوا يؤمنون به مع الإشراك قالوا: {وحده} أي تكونوا مكذبين بكل ما يعبد من دونه. ولما حث سبحانه المخاطبين على التأسي بقول إبراهيم ومن معه في الوقت عليهم السلام استثنى منه فقال تأنيساً لمن نزلت القصة بسببه واستعطافاً له وهو حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه: {إلا قول إبراهيم} أي فلا تأسي لكم به {لأبيه} واعداً له قبل أن يبين له أنه ثابت العداوة لله تعالى لكونه مطبوعاً على قلبه، فلا صلاح له، يقال: إن أباه وعده أنه يؤمن فاستغفر له، فلما تبين له، أنه لا يؤمن تبرأ منه: {لأستغفرن} أي لأوجدن طلب الغفران من الله {لك} فإن هذا الاستغفار لكافر، فلا ينبغي لهم أن يتأسوا به فيه مطلقاً غير ناظرين إلى علم أنه مطبوع على قلبه أو في حيز الرجوع.ولما وعده بالاستغفار ترغيباً له، رهبه لئلا يترك السعي في النجاة بما معناه أنه ليس في يدي غير الاستغفار، فقال: {وما أملك لك} أي لكونك كافراً {من الله} أي لأنه الملك الأعلى المحيط بنعوت الجلال، وأعرق في النفي بقوله: {من شيء} والاستثناء وقع على هذا القول بقيد الاجتماع...
{ربنا} أي أيها المحسن إلينا بتخليصك لنا من الهلاك باتباعهم {عليك} أي لا على غيرك {توكلنا} أي فعلنا في جميع أمورنا معك فعل من يحملها على قوى ليكفيه أمرها لأنا نعلم أنك تكفي إذا شئت كل ملم، وأنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت...
. {وإليك} أي وحدك لا إلى غيرك {أنبنا} أي رجعنا بجميع ظواهرنا وبواطننا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم تأتي الجولة الثالثة فتصل المسلمين بأول هذه الأمة الواحدة: أمة التوحيد...
.إنها الأمة الممتدة منذ إبراهيم. أبيهم الأول وصاحب الحنيفية الأولى. وفيه أسوة لا في العقيدة وحدها، بل كذلك في السيرة، وفي التجارب التي عاناها مع عاطفة القرابة ووشائجها ....
... مر إبراهيم والذين معه بالتجربة التي يعانيها المسلمون المهاجرون. وفيهم أسوة حسنة: (إذ قالوا لقومهم: إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده).. فهي البراءة من القوم ومعبوداتهم وعباداتهم. وهو الكفر بهم والإيمان بالله. وهي العداوة والبغضاء لا تنقطع حتى يؤمن القوم بالله وحده. وهي المفاصلة الحاسمة الجازمة التي لا تستبقي شيئا من الوشائج والأواصر بعد انقطاع وشيجة العقيدة وآصرة الإيمان. وفي هذا فصل الخطاب في مثل هذه التجربة التي يمر بها المؤمن في أي جيل...
فجاء القرآن ليشرح لهم حقيقة موقف إبراهيم في قوله لأبيه: (لأستغفرن لك).. فلقد قال هذا قبل أن يستيقن من إصرار أبيه على الشرك. قاله وهو يرجو إيمانه ويتوقعه: (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه).. كما جاء في سورة أخرى. ويثبت هنا أن إبراهيم فوض الأمر كله لله، وتوجه إليه بالتوكل والإنابة والرجوع إليه على كل حال: (وما أملك لك من الله من شيء. ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير).. وهذا التسليم المطلق لله، هو السمة الإيمانية الواضحة في إبراهيم يبرزها هنا ليوجه إليها قلوب أبنائه المسلمين. كحلقة من حلقات التربية والتوجيه بالقصص والتعقيب عليه، وإبراز ما في ثناياه من ملامح وسمات وتوجيهات على طريقة القرآن الكريم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
صدر هذه الآية يفيد تأكيداً لمضمون جملة {إن يثقفوكم} [الممتحنة: 2] وجملة {لن تنفعكم أرحامكم} [الممتحنة: 3]، لأنها بما تضمنته من أن الموجه إليهم التوبيخ خالفوا الأسوةَ الحسنة تقوي إثبات الخطأ المستوجب للتوبيخ. ذلك أنه بعد الفراغ من بيان خطأ من يوالي عدوَّ الله بما يجرّ إلى أصحابه من مضارّ في الدنيا وفي الآخرة تحذيراً لهم من ذلك، انتقل إلى تمثيل الحالة الصالحة بمثال من فعل أهل الإِيمان الصادق والاستقامة القويمة وناهيك بها أسوة.وافتتاح الكلام بكلمتي {قد كانت} لتأكيد الخبر، فإن {قد} مع فعل الكون يراد بهما التعريض بالإِنكار على المخاطب ولومه في الإِعراض عن العمل بما تضمنه...
. {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} [الأحزاب: 21]. وعُطف {والذين معه} ليتم التمثيل لحال المسلمين مع رسولهم صلى الله عليه وسلم بحال إبراهيم عليه السلام والذين معه، أي أن يكون المسلمون تابعين لرضى رسولهم صلى الله عليه وسلم كما كان الذين مع إبراهيم عليه السلام. وحرف {في} مستعار لقوة الملابسة إذ جعل تلبس إبراهيم والذين معه بكونهم أسوة حسنة، بمنزلة تلبس الظرف بالمظروف في شدة التمكن من الوصف. و {العداوة} المعاملة بالسوء والاعتداءِ. و {البغضاء}: نفرة النفس، والكراهيةُ وقد تطلق إحداهما في موضع الأخرى إذا افترقتا، فذِكرهما معاً هنا مقصود به حصول الحالتين في أنفسهم: حالة المعاملة بالعدوان، وحالة النفرة والكراهية، أي نُسِيءُ معاملتكم ونُضمر لكم الكراهية حتى تؤمنوا بالله وحده دون إشراك. فالمؤتَسَى به أنهم كاشفوا قومهم بالمنافرة، وصرحوا لهم بالبغضاء لأجل كفرهم بالله ولم يصانعوهم ويغضُّوا عن كفرهم لاكتساب مودتهم كما فعل الموبخ بهذه الآية. وتقديم المجرور على هذه الأفعال لإِفادة القصر، وهو قصر بعضه ادعائي وبعضه حقيقي كما تصرف إليه القرينة. وإعادة النداء بقولهم: {ربنا} إظهار للتضرع مع كل دعوة من الدعوات الثلاث.