اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَـٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ إِلَّا قَوۡلَ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسۡتَغۡفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمۡلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۖ رَّبَّنَا عَلَيۡكَ تَوَكَّلۡنَا وَإِلَيۡكَ أَنَبۡنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} (4)

قوله تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ } الآية .

لما نهى عن مُوالاةِ الكُفَّار ذكر قصة إبراهيم ، وأن من سيرته التَّبرؤ من الكُفَّار ، أي : فاقتدوا به إلاَّ في الاستغفار لأبيه{[56197]} .

والأسْوَةُ والإسوةُ ما يتأسّى به مثل القُدوة والقِدوة ، ويقال : هو أسوتك أي مثلك وأنت مثله وتقدم قراءة «أسوة » في سورة «الأحزاب » والكلام على مادتها{[56198]} .

قوله : { في إِبْرَاهِيمَ } . في أوجه{[56199]} :

أحدها : أنه متعلق ب «أسوة » ، تقول : لي أسوة في فلان ، ومنع أبو البقاء أن يتعلق بها لأنها قد وصفت{[56200]} .

وهذا لا يبالى به لأنه يغتفر في الظرف ما لا يغتفر في غيره .

الثاني : أنه متعلق ب «حسنة » تعلق الظرف بالعامل .

الثالث : أنه نعتٌ ثانٍ ل «أسوة » .

الرابع : أنه حال من الضمير المستتر في «حسنة » .

الخامس : أن يكون خبر «كَانَ » و «لَكُمْ » تبيين .

قوله : { والذين مَعَهُ } يعني أصحاب إبراهيم من المؤمنين .

وقال ابن زيدٍ : هم الأنبياء{[56201]} .

قوله : { إِذْ قَالُواْ } . فيه وجهان{[56202]} :

أحدهما : أنه خبر «كان » .

والثاني : أنه متعلق بخبرها .

قالهما أبو البقاء{[56203]} .

ومن جوز في «كان » أن تعمل في الظرف علقه بها ، والمراد بقومهم : الكفار .

قوله : { إِنَّا بُرَءآؤ } .

هذه قراءة العامة - بضم الباء وفتح الراء وألف بين همزتين - جمع «بريء » ، نحو «كرماء » في نحو «كريم » .

وعيسى أيضاً وأبو جعفر بضم الباء وهمزة بعد ألف .

وفيه أوجه{[56204]} :

أحدها : أنه جمع بريء أيضاً ، والأصل كسر الباء ، وإنما أبدل من الكسرة ضمَّة ك «رُخَال ، ورُبَاب » قاله الزمخشري{[56205]} .

الثاني : أنه جمع «بريء » أيضاً وأصله : «برآء » كالقراءة المشهورة إلاَّ أنه حذف الهمزة الأولى تخفيفاً . قاله أبو البقاء{[56206]} .

الثالث : أنه اسم جمع ل «بريء » نحو : «تؤام ، وظؤار » اسمي جمع ل «توأم ، وظِئْر » .

وقرأ عيسى أيضاً{[56207]} بفتح الباء وهمزة بعد ألف ، كالتي في «الزخرف »{[56208]} ، وصح ذلك لأنه مصدر ، والمصدر يقع على الجمع كوقوعه على الواحد .

قال الزمخشري{[56209]} : «والبراء والبراءة كالظماء والظماءة » .

وقال مكي{[56210]} : وأجاز أبو عمرو وعيسى بن عمر : «بِراء » - بكسر الباء - جعلاه ك «كريم وكرام » .

قال القرطبي{[56211]} : هو على وزن «فِعَال » مثل : «قِصَار وقصير » ، و «طِوَال وطويل » و «ظراف وظريف » ويجوز ترك الهمزة حتى تقول برآ وتنون .

وأجاز الفراء : بفتح الباء ، ثم قال : «وبراءُ » في الأصل مصدر .

كأنه لم يطلع على أنها قراءة منقولة .

فصل في الاقتداء بسيدنا إبراهيم .

قال القرطبي{[56212]} : «الآية نصّ في الأمر بالاقتداء بإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - في فعله ، وذلك يدلّ على أن شرع من قبلنا شرع لنا فيما أخبر الله ورسوله » .

قوله : { كَفَرْنَا بِكُمْ } ، أي بما آمنتم به من الأوثان .

وقيل : بأفعالكم وكذبناها وأنكرنا أن يكونوا على حق ، { وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء أَبَداً } أي : هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم حتى تؤمنوا بالله وحده ، فحينئذ تنقلب المعاداةُ موالاة .

فإن قيل : ما الفائدة في قوله : { تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ } ، والإيمان إنما هو باللَّهِ وبغيره كقوله : { كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ }[ البقرة : 285 ] .

فالجواب{[56213]} : أن الإيمان بالله وحده مستلزمٌ للإيمان بالملائكة والكتب والرسل .

قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ } فيه أوجه{[56214]} :

أحدها : أنه استثناء متصل من قوله : «في إبراهيم » ولكن لا بد من حذف مضاف ليصح الكلام ، تقديره : في مقالات إبراهيم إلا قوله كيت وكيت .

الثاني : أنه مستثنى من { أًسْوَةٌ حَسَنَةٌ } وجاز ذلك ؛ لأن القول أيضاً من جملة الأسوة ؛ لأن الأسوة الاقتداء بالشخص في أقواله وأفعاله ، فكأنه قيل : لكم فيه أسوة في جميع أحواله من قول وفعل إلا قوله كذا . وهذا واضح ؛ لأنه غير مُحوجٍ إلى تقدير مضاف وغير مخرجٍ للاستثناء من الاتصال الذي هو أصله إلى الانقطاع ، ولذلك لم يذكر الزمخشري غيره .

قال{[56215]} : فإن قلت : ممَّ استثني قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ } ؟ ، قلت : من قوله «أسْوةٌ حسَنةٌ » ؛ لأنه أراد بالأسوة الحسنة قولهم الذي حق عليهم أن يتأسَّوا به ، ويتخذوه سنة يستنون بها . فإن قلت : فإن كان قوله «لأسْتغفِرنَّ لَكَ » مستثنى من القول الذي هو «أسْوةٌ حَسَنةٌ » فما بال قوله : { وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ } وهو غير حقيق بالاستثناء ، ألا ترى إلى قوله : { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً }[ الفتح : 11 ] ، قلت : أراد استثناء جملة قوله : «لأبيهِ » والقصد إلى موعد الاستغفار له ، وما بعده مبني عليه وتابع له ، كأنه قال : أنا أستغفر لك ، وما في طاقتي إلاَّ الاستغفار .

الثالث : قال ابن عطية{[56216]} : «ويحتمل أن يكون الاستثناء من التَّبري والقطيعة التي ذكرت أي : لم تبق صلة إلا كذا ، والله أعلم » .

الرابع : أنه استثناء منقطع ، أي : لكن قول إبراهيم .

وهذا بناء من قائليه على أنَّ القول لم يندرج تحت قوله : «أسْوَةٌ » ، وهو ممنوع .

فصل :

قال القرطبي{[56217]} : معنى قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } أي : فلا تتأسَّوا به في الاستغفار ، فتستغفرون للمشركين ، فإنه كان عن موعدة منه له .

قاله قتادة ومجاهد وغيرهما{[56218]} .

وقيل : معنى الاستثناء أن إبراهيم هجر قومه وباعدهم إلا في الاستغفار لأبيه ، ثم بين عذره في سورة «التوبة » ، وفي هذا دلالة على تفضيل نبيِّنا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء ؛ لأنا حين أمرنا بالاقتداء به أمِرْنا أمراً مطلقاً في قوله :{ وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا }[ الحشر : 7 ] ، وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام استثني بعض أفعاله ، وذلك إنما جرى ؛ لأنه ظن أنه أسلم ، فلما بان أنه لم يسلم تبرَّأ منه ، وعلى هذا يجوز الاستغفار لمن يظن أنه أسلم ، وأنتم لم تجدوا مثل هذا الظَّن فلم توالوهم ؟ .

قوله : { وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ } هذا من قول إبراهيم لأبيه ، أي : ما أدفع عنك من عذاب الله شيئاً إن أشركت به{[56219]} .

قوله : { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا } يجوز أن يكون من مقول إبراهيم والذين معه ، فهو من جملة الأسوة الحسنة ، وفصل بينهما بالاستثناء ، ويجوز أن يكون منقطعاً مما قبله على إضمار قول ، وهو تعليم من الله تعالى لعباده ، كأنه قال لهم : قولوا : { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا } أي : اعتمدنا { وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا } أي : رجعنا { وَإِلَيْكَ المصير } أي : الرجوع في الآخرة{[56220]} .


[56197]:ينظر: القرطبي 18/38.
[56198]:سورة الأحزاب، آية(21).
[56199]:ينظر: الدر المصون 6/304.
[56200]:ينظر: الإملاء 2/1218.
[56201]:ينظر: القرطبي 18/38.
[56202]:ينظر: الدر المصون 6/304.
[56203]:ينظر: الإملاء 2/1218.
[56204]:ينظر: الدر المصون السابق، وينظر: المحرر الوجيز 5/295، والبحر المحيط 8/252.
[56205]:ينظر: الكشاف 4/514.
[56206]:ينظر: الإملاء 2/1218.
[56207]:ينظر: المحرر الوجيز 5/295، والبحر المحيط 8/252، والدر المصون 6/304.
[56208]:ينظر تفسير سورة الزخرف، آية (26).
[56209]:ينظر: الكشاف 4/514.
[56210]:ينظر: المشكل ص1218.
[56211]:الجامع لأحكام القرآن 18/38.
[56212]:السابق.
[56213]:ينظر: الفخر الرازي 29/261.
[56214]:ينظر: الدر المصون 6/305.
[56215]:ينظر: الكشاف 4/514.
[56216]:ينظر: المحرر الوجيز 5/295.
[56217]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/38.
[56218]:ذكره البغوي في "تفسيره" (4/330) والقرطبي (18/38).
[56219]:السابق 18/39.
[56220]:الدر المصون 6/305.