فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَـٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ إِلَّا قَوۡلَ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسۡتَغۡفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمۡلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۖ رَّبَّنَا عَلَيۡكَ تَوَكَّلۡنَا وَإِلَيۡكَ أَنَبۡنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} (4)

ولما فرغ سبحانه من النهي عن موالاة المشركين ، والذم لمن وقع منه ذلك ضرب لهم إبراهيم مثلا حين تبرأ من قومه فقال :

{ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ( 4 ) ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم ( 5 ) لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ( 6 ) * عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم ( 7 ) }

{ قد كانت لكم أسوة حسنة } أي خصلة حميدة تقتدون بها ، يقال : لي به أسوة في هذا الأمر . أي اقتداء ، فأرشدهم سبحانه إلا الاقتداء بإبراهيم في ذلك إلا في استغفاره لأبيه ، قرأ الجمهور أسوة بكسر الهمزة ، وقرأ بضمها وهما لغتان ، وقراءاتان سبعيتان ، وأصل الأسوة بالضم والكسر القدرة ، ويقال : هو أسوتك أي مثلك وأنت مثله { في إبراهيم } أي في أفعاله وأقواله ، وفي متعلقة بأسوة ، ومنعه أبو البقاء ، أو بحسنة أو نعت ثان لأسوة أو حلا من الضمير المستتر في حسنة أو خبر لكان ، ولكم تبيين { والذين معه } هم أصحابه المؤمنون ، وقال ابن زيد : هو الأنبياء قال الفراء : يقول : أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم ؟ فتتبرأ من أهلك كما تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه ؟

{ إذا قالوا لقومهم } خبر كان أو متعلق بخبرها قالهما أبو البقاء ، ومن جوز في كل أن تعمل في الظرف علقه بها ، هذا ما في السمين ، وقال الحفناوي : الظرف بدل اشتمال من إبراهيم والذين معه وهذا أحسن الأعاريب المذكورة هنا ، والمعنى وقت قولهم لقومهم الكفار وقد كانوا أكثر من عدوكم وأقوى ولهم فيهم أرحام وقرابات ، ومع ذلك لم يبالوا بهم ، بل قالوا :

{ إنا برآء منكم } أي من دينكم جمع بريء مثل شركاء جمع شريك ، وظرفاء جمع ظريف ، قرأ الجمهور بضم الباء وفتح الراء وألف بين همزتين ككرماء في كريم وقرئ بكسر الباء وفتح الراء ككرام في كريم وبضم الباء وهمزة بعد ألف .

{ ومما تعبدون من دون الله } وهي الأصنام { كفرنا بكم } أي بما آمنتم به من الأوثان أو بدينكم أو بأفعالكم أي لا نعتد بشأنكم ولا بشأن آلهتكم { وبدا بيننا وبينكم العداوة } بالأفعال { والبغضاء } بالقلوب { أبدا } أي هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم { حتى تؤمنوا بالله وحده } وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك ، فإذا فعلتم ذلك صارت تلك العداوة موالاة والبغضاء محبة { إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } هو الاستثناء متصل من قوله في إبراهيم بتقدير مضاف محذوف ليصح الاستثناء أي قد كانت لكم أسوة حسنة في مقالات إبراهيم كلها ، إلا قوله لأبيه إلخ أو من أسوة حسنة ، وصح ذلك لأن القول من جملة الأسوة ، كأنه قيل : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم في جميع أقواله وأفعاله ، إلا قوله لأبيه ، وهذا عندي واضح غير محوج على تقدير مضاف ، وغير مخرج للاستثناء من الاتصال الذي هو أصله ، إلى الانقطاع ، ولذلك لم يذكر الزمخشري غيره ، أو من التبري والقطيعة التي ذكرت أي لم يواصله إلا قوله ، ذكر هذا ابن عطية أو هو منقطع أي لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن فلا تتأسوا به فتستغفرون للمشركين فإنه كان عن موعدة وعدها إياه أو أن ذلك إنما وقع منه لأنه ظن أنه قد أسلم ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ، وقد تقدم تحقيق هذا في سورة براءة . قال ابن عباس في الآية : نهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم لأبيه وهو مشرك .

{ وما أملك لك من الله من شيء } هذا من تمام القول المستثنى يعني ما أغني عنك وما أدفع عنك من عذاب الله وثوابه شيئا والجملة في محل نصب على الحال من فاعل لأستغفرن ، فالاستثناء متوجه إلى الاستغفار لا إلى هذا القيد ، فإنه إظهار للعجز ، وتفويض للأمر إلى الله ، وذلك من خصال الخير { ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير } هذا من دعاء إبراهيم وأصحابه ، ومما فيه أسوة حسنة يقتدي به فيها ، وقيل : هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا هذا القول والتوكل هو تفويض الأمور إلى الله والإنابة الرجوع ، والمصير المرجع . وتقديم الجار والمجرور لقصر التوكل والإنابة والمصير على الله .