روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{ٱذۡهَبُواْ بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلۡقُوهُ عَلَىٰ وَجۡهِ أَبِي يَأۡتِ بَصِيرٗا وَأۡتُونِي بِأَهۡلِكُمۡ أَجۡمَعِينَ} (93)

{ اذهبوا بِقَمِيصِى هذا } هو القميص الذي كان عليه حينئذٍ كما هو الظاهر ؛ وعن ابن عباس وغيره أنه القميص الذي كساه الله تعالى إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وكان من قمص الجنة جعله يعقوب حين وصل إليه في قصبة فضة وعلقه في عنق يوسف وكان لا يقع على عاهة من عاهات الدنيا إلا أبرأها بإذن الله تعالى . وضعف هذا بأن قوله : { إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } [ يوسف : 94 ] يدل على أنه عليه السلام كان لابساً له في تعويذته كما تشهد به الإضافة إلى ضميره وهو تضعيف ضعيف كما لا يخفى ، وقيل : هو القميص الذي قد من دبر وأرسله ليعلم يعقوب أنه عصم من الفاحشة ولا يخفى بعده ، وأياً ما كان فالباء إما للمصاحبة أو للملابسة أي اذهبوا مصحوبين أو ملتبسين به أو للتعدية على ما قيل أي اذهبوا قميصي هذا { فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا } أي يصر بصيراً ويشهد له { فارتد بَصِيرًا } [ يوسف : 96 ] أو يأت إلي وهو بصير وينصره قوله : { وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } من النساء والذراري وغيرهم مما ينتظمه لفظ الأهل كذا قالوا .

وحاصل الوجهين كما قال بعض المدققين أن الإتيان في الأول مجاز عن الصيرورة ولم يذكر إتيان الأب إليه لا لكونه داخلاً في الأهل فإنه يجل عن التابعية بل تفادياً عن أمر الإخوة بالإتيان لأنه نوع إجبار على من يؤتى به فهو إلى اختياره ، وفي الثاني على الحقيقة وفيه التفادي المذكور ، والجزم بأنه من الآتين لا محالة وثوقاً بمحبته وإن فائدة الإلقاء إتيانه على ما أحب من كونه معافى سليم البصر ، وفيه أن صيرورته بصير أمر مفروع عنه مقطوع إنما الكلام في تسبب الإلقاء لإتيانه كذلك فهذا الوجه أرجح وإن كان الأول من الخلافة بالقبول بمنزل ، وفيه دلالة على أنه عليه السلام قد ذهب بصره ، وعلم يوسف عليه السلام بذلك يحتمل أن يكون بإعلامهم ويحتمل أن يكون بالوحي ، وكذا علمه بما يترتب على الإلقاء يحتمل أن يكون عن وحي أيضاً أو عن وقوف من قبل على خواص ذلك القميص بالتجربة أو نحوها إن كان المراد بالقميص الذي كان في التعويذة ويتعين الاحتمال الأول إن كان المراد غيره على ما هو الظاهر . وقال الإمام : يمكن أن يقال : لعل يوسف عليه السلام علم أن أباه ما عرا بصره ما عراه إلا من كثرة البكاء وضيق القلب فإذا ألقى عليه قميصه فلا بد وأن ينشرح صدره وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد وذلك يقوى الروح ويزيل الضعف عن القوى فحينئذٍ يقوى بصره ويزول عنه ذلك النقصان فهذا القدر مما يمكن معرفته بالعقل فإن القوانين الطبية تدل على صحته وأنا لا أرى ذلك ، قال الكلبي : وكان أولئك الأهل نحواً من سبعين إنساناً( {[430]} ) وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أنهم اثنان وسبعون من ولده وولد ولده ، وقيل : ثمانون ، وقيل : تسعون وأخرج ابن المنذر . وغيره عن ابن مسعود أنهم ثلاثة وتسعون . وقيل : ست وتسعون وقد نموا في مصر فخرجوا منها مع موسى عليه السلام وهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعون رجلاً سوى الذرية والهرمى وكانت الذرية ألف ألف ومائتي ألف على ما قيل .

( ومن باب الإشارة { اذهبوا بِقَمِيصِى هذا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا } لما علم عليه السلام أن أباه عليه السلام لا يحتمل الوصال الكلي بالبديهة جعل وصاله بالتدريج فأرسل إليه بقميصه ، ولما كان مبدأ الهم الذي أصابه من القميص الذي جاؤوا عليه بدم كذب عين هذا القميص مبدأ للسرور دون غيره من آثاره عليه السلام ليدخل عليه السرور من الجهة التي دخل عليه الهم منها { وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } [ يوسف : 93 ] كان كرم يوسف عليه السلام يقتضي أن يسير بنفسه إلى أبيه ولعله إنما لم يفعل لعلمه أن ذلك يشق على أبيه لكثرة من يسير معه ولا يمكن أن يسير إليه بدون ذلك أو لأن في ذلك تعطل أمر العامة وليس هناك من يقوم به غيره ، ويحتمل أن يكون أوحى إليه بذلك لحكمة أخرى ، وقيل : إن المعشوقية اقتضت ذلك ، ومن رأى معشوقاً رحيماً بعاشقه ؟ ، وفيه ما لا يخفى .


[430]:- وفي التوراة أن من دخل مصر من بني إسرائيل سبعون اهـ منه.