روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلۡعِيرُ قَالَ أَبُوهُمۡ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَۖ لَوۡلَآ أَن تُفَنِّدُونِ} (94)

{ وَلَمَّا فَصَلَتِ العير } خرجت من عريش مصر قاصدة مكان يعقوب عليه السلام وكان قريباً من بيت المقدس والقول بأنه كان بالجزيرة لا يعول عليه ، يقال : فصل من البلد يفصل فصولاً إذا انفصل منه وجاوز حيطانه وهو لازم وفصل الشيء فصلاً إذا فرقه وهو متعد . وقرأ ابن عباس { وَلَمَّا انفصل العير ، قَالَ أَبُوهُمْ } يعقوب عليه السلام لمن عنده { إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } أي لأشم فهو وجود حاسة الشم أشمه الله تعالى ما عبق بالقميص من ريح يوسف عليه السلام من مسيرة ثمانية أيام على ما روي عن ابن عباس ، وقال الحسن . وابن جريج . من ثمانين فرسخاً ، وفي رواية عن الحسن أخرى من مسيرة ثلاثين يوماً . وفي أخرى عنه من مسيرة عشر ليال ، وقد استأذنت الريح على ما روي عن أبي أيوب الهروي في إيصال عرف يوسف عليه السلام فأذن الله تعالى لها ، وقال مجاهد : صفقت الريح القميص فراحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب عليه السلام فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريحها إلا ما كان من ذلك القميص فقال ما قاله ، ويبعد ذلك الإضافة فإنها حينئذٍ لأدنى ملابسة وهي فيما قبل وإن كانت كذلك أيضاً إلا أنها أقوى بكثير منها على هذا كما لا يخفى { لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ } أي تنسبوني إلى الفند بفتحتين ويستعمل بمعنى الفساد( {[431]} ) كما في قوله :

إلا سليمان إذ قال الإله له *** قم في البرية فاحددها عن الفند

وبمعنى ضعف الرأي والعقل من الهرم وكبر السن ويقال : فند الرجل إذا نسبه إلى الفند ، وهو على ما قيل مأخوذ من الفند وهو الحجر كأنه جعل حجراً لقلة فهمه كما قيل :

إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى *** فكن حجراً من يابس الصخر جلمد

ثم اتسع فيه فقيل فنده إذا ضعف رأيه ولامه على ما فعل ؛ قال الشاعر :

يا عاذلي دعا لومي وتفنيدي *** فليس ما قلت من أمر بمردود

وجاء أفند الدهر فلاناً أفسده ، قال ابن مقتل :

دع الدهر يفعل ما أراد فإنه *** إذا كلف الإفناد بالناس أفندا

ويقال : شيخ مفند إذا فسد رأيه ، ولا يقال : عجوز مفندة لأنها لا رأي لها في شبيبتها حتى يضعف قاله الجوهري وغيره من أهل اللغة ، وذكره الزمخشري في «الكشاف » وغيره ، واستغربه السمين ولعل وجهه أن لها عقلاً وإن كان ناقصاً يشتد نقصه بكبر السن فتأمل ، وجواب { لَوْلاَ } محذوف أي لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني أو لقلت : إن يوسف قريب مكانه أو لقاؤه أو نحو ذلك ، والمخاطب قيل : من بقي من ولده غير الذين ذهبوا يمتارون وهم كثير ، وقيل : ولد ولده ومن كان بحضرته من ذوي قرابته وهو المشهور .

( ومن باب الإشارة { وَلَمَّا فَصَلَتِ العير قَالَ أَبُوهُمْ إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } [ يوسف : 94 ] يقال : إن ريح الصبا سألت الله تعالى فقالت : يا رب خصني أن أبشر يعقوب عليه السلام بابنه فأذن لها بذلك فحملت نشره إلى مشامه عليه السلام وكان ساجداً فرفع رأسه وقال ذلك وكان لسان حاله يقول :

أيا جبلي نعمان بالله خليا *** نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها

أجد بردها أو تشف مني حرارة *** على كبد لم يبق إلا صميمها

فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت *** على نفس مهموم تجلت همومها

وهكذا عشاق الحضرة لا يزالون يتعرضون لنفحات ريح وصال الأزل ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : «إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لنفحات الرحمن » ويقال : المؤمن المتحقق يجد نسيم الإيمان في قلبه وروح المعرفة السابقة له من الله تعالى في سره ، وإنما وجد عليه السلام هذا الريح حيث بلغ الكتاب أجله ودنت أيام الوصال وحان تصرم أيام الهجر والبلبال وإلا فلم لم يجده عليه السلام لما كان يوسف في الجب ليس بينه وبينه إلا سويعة من نهار وما ذلك إلا لأن الأمور مرهونة بأوقاتها ، وعلى هذا كشوفات الأولياء فإنهم آونة يكشف لهم على ما قيل اللوح المحفوظ ، وأخرى لا يعرفون ما تحت أقدامهم


[431]:- وجاء بمعنى الكذب كما في الصحاح وغيره اهـ منه.