روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{يَـٰٓأَبَتِ إِنِّيٓ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٞ مِّنَ ٱلرَّحۡمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيۡطَٰنِ وَلِيّٗا} (45)

وقوله : { يا أبت إِنّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرحمن } تحذي من سوء عاقبة ما هو فيه من عبادة الأصنام والخوف كما قال الراغب توقع المكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة فهو غير مقطوع فيه بما يخاف . ومن هنا قيل : إن في اختياره مجاملة . وحمله الفراء . والطبري على العلم وليس بذاك . وتنوين { عَذَاب } على ما اختاره السعد في المطول يحتمل التعظيم والتقليل أي عذاب هائل أو أدنى شيء منه وقال لا دلالة للفظ المس وإضافة العذاب إلى الرحمن على ترجيح الثاني كما ذكره بعضهم لقوله تعالى : { لَمَسَّكُمْ في مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النور : 14 ] ولأن العقوبة من الكريم الحليم أشد اه .

واختار أبو السعود أنه للتعظيم ، وقال : كلمة من متعلقة بمضمر وقع صفة للعذاب مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ، وإظهار الرحمن للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب كما في قوله عز وجل : { مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم } [ الانفطار : 6 ] انتهى ، وفي «الكشف » أن الحمل على التفخيم { في عَذَابِ } كما جوزه صاحب المفتاح مما يأباه المقام أي لأنه مقام إظهار مزيد الشفقة ومراعاة الأدب وحسن المعاملة وإنما قال { مّنَ الرحمن } لقوله أولاً { كَانَ للرحمن عَصِيّاً } [ مريم : 44 ] وللدلالة على أنه ليس على وجه الانتقام بل ذلك أضياً رحمة من الله تعالى على عباده وتنبيه على سبق الرحمة الغضب وإن الرحمانية لا تنافي العذاب بل الرحيمية على ما عليه الصوفية فقد قال المحقق القونوي في تفسير الفاتحة . الرحيم كما بينا لأهل اليمين والجمال والرحمن الجامع بين اللطف والقهر لأهل القضية الأخرى والجلال إلى آخر ما قال ، وأيد الحمل على التفخيم بقوله : { فَتَكُونَ للشيطان وَلِيّاً } أي قريناً تليه ويليك في العذاب فإن الولاية للشيطان بهذا المعنى إنما تترتب على مس العذاب العظيم . وأجيب عن كون المقام مقام إظهار مزيد الشفقة وهو يأبى ذلك بأن القسوة أحياناً من الشفقة أيضاً كما قيل :

فقسا ليزدجروا ومن يك حازما *** فليقس أحياناً على من يرحم

وقد تقدم هذا مع أبيات أخر بهذا المعنى ، ويكفى في مراعاة الأدب والمجاملة عدم الجزم باللحوق . والمس وإن كان مشعراً بالقلة عند الجلة لكن قالوا : إن الكثرة والعظمة باعتبار ما يلزمه ويتبعه لا بالنظر إليه في نفسه فإنه غير مقصود بالذات وإنما هو كالذوب مقدمة للمقصود فيصح وصفه بكل من الأمرين باعتبارين . وكأني بك تختار التفخيم لأنه أنسب بالتخويف وتدعى أنه ههنا من معدن الشفقة فتدبر وجوز أن يكون { فَتَكُونُ } الخ مترتباً على مس العذاب القليل والولي من الموالاة وهي المتابعة والمصادقة . والمراد تفريع الثبات على حكم تلك الموالاة وبقاء آثارها من سخط الله تعالى وغضبه ، ولا مانع من أن يتفرع من قليل أمر عظيم . ثم الظاهر أن المراد بالعذاب عذاب الآخرة وتأوله بعضهم بعذاب الدنيا وأراد به الخذلان أو شيئاً آخر مما أصاب الكفرة في الدنيا من أنواع البلاء وليس بذاك ، وزعم بعضهم أن في الكلام تقديماً وتأخيراً والأصل إني أخاف أن تكون ولياً للشيطان أي تابعاً له في الدنيا فيمسك عذاب من الرحمن أي في العقبى وكأنه أشكل عليه أمر التفريع فاضطر لما ذكر وقد أغناك الله تعالى عن ذلك بما ذكرنا .