روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِبۡرَٰهِيمَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّيقٗا نَّبِيًّا} (41)

{ واذكر } عطف على { أَنذَرَهُمْ } [ مريم : 39 ] عند أبي السعود ، وقيل : على اذكر السابق ، ولعله الظاهر { في الكتاب } أي هذه السورة أو في القرآن { إِبْرَاهِيمَ } أي اتل على الناس قصته كقوله تعالى : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إبراهيم } [ الشعراء : 69 ] وإلا فذاكر ذلك في الكتاب هو الله تعالى كما في «الكشاف » : ، وفيه أنه عليه الصلاة والسلام لكونه الناطق عنه تعالى ومبلغ أوامره ونواهيه وأعظم مظاهره سبحانه ومجاليه كأنه الذاكر في الكتاب ما ذكره ربه جل وعلا ومناسبة هذه الآية لما قبلها اشتمالها على تضليل من نسب الألوهية إلى الجماد اشتمال ما قبلها على ما أشار إلى تضليل من نسبها إلى الحي والفريقان وإن اشتركا في الضلال إلا أن الفريق الثاني أضل .

ويقال على القول الأول في العطف : إن المراد أنذرهم ذلك واذكر لهم قصة إبراهيم عليه السلام فإنهم ينتمون إليه صلى الله عليه وسلم فعساهم باستماع قصته يقلعون عما هم فيه من القبائح { إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً } أي ملازم الصدق لم يكذب قط { نَّبِيًّا } استنبأه الله تعالى وهو خبر آخر لكان مقيد للأول مخصص له أي كان جامعاً بين الوصفين .

ولعل هذا الترتيب للمبالغة في الاحتراز عن توهم تخصيص الصديقية بالنبوة فإن كل نبي صديق ، وقيل : الصديق من صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بفعله ، وفي «الكشاف » الصديق من أبنية المبالغة والمراد فرط صدقه وكثرة ما صدق به من غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل أي كان مصدقاً بجميع الأنبياء وكتبهم وكان نبياً في نفسه كقوله تعالى : { بَلْ جَاء بالحق وَصَدَّقَ المرسلين } [ الصافات : 37 ] أو كان بليغاً في الصدق لأن ملاك أمر النبوة الصدق ومصدق الله تعالى بآياته ومعجزاته حري أن يكون كذلك انتهى .

وفيه إشارة إلى أن المبالغة تحتمل أن تكون باعتبار الكم وأن تكون باعتبار الكيف ولك أن تريد الأمرين لكون المقام مقام المدح والمبالغة ، وقد ألم بذلك الراغب ، وأما أن التكثير باعتبار المفعول كما في قطعت الحبال فقد عده في «الكشف » من الأغلاط فتأمل ، واستظهر أنه من الصدق لا من التصديق ، وأيد بأنه قرئ { إِنَّهُ كَانَ صادقا } وبأنه قلما يوجد فعيل من مفعل والكثير من فاعل ، وفسر بعضهم النبي هنا برفيع القدر عند الله تعالى وعند الناس .

والجملة استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر فإن وصفه عليه السلام بذلك من دواعي ذكره وهي على ما قيل اعتراض بين المبدل منه وهو إبراهيم والبدل وهو إذ في قوله تعالى : { إِذْ قَالَ } وتعقبه صاحب الفرائد بأن الاعتراض بين البدل والمبدل منه بدون الواو بعيد عن الطبع ، وفيه منع ظاهر ، وفي «البحر » أن بدلية إذ من { إبراهيم } [ مريم : 41 ] تقتضي تصرفها والأصح أنها لا تتصرف وفيه بحث .

ومن باب الإشارة في الآيات : { واذكر فِي الكتاب إبراهيم إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً } [ مريم : 41 ] أمر للحبيب أن يذكر الخليل وما من الله تعالى به عليه من أحكام الخلة ليستشير المستعدين إلى التحلي بما أمكن لهم منها . والصديق على ما قال ابن عطاء القائم مع ربه سبحانه على حد الصدق في جميع الأوقات لا يعارضه في صدقه معارض بحال ، وقال أبو سعيد الخزاز : الصديق الآخذ بأتم الحظوظ من كل مقام سنى حتى يقرب من درجات الأنبياء عليهم السلام ، وقال بعضهم : من تواترت أنوار المشاهدة واليقين عليه وأحاطت به أنوار العصمة .

وقال القاضي : هو الذي صعدت نفسه تارة بمراقي النظر في الحجج والآيات وأخرى بمعارج التصفية والرياضة إلى أوج العرفان حتى اطلع على الأشياء وأخبر عنها على ما هي عليه ، ومقام الصديقية قيل : تحت مقام النبوة ليس بينهما مقام .

وعن الشيخ الأكبر قدس سره إثبات مقام بينهما وذكر أنه حصل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه . والمشهور بهذا الوصف بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه وليس ذلك مختصاً به ، فقد أخرج أبو نعيم في المعرفة . وابن عساكر . وابن مردويه من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه أبي ليلى الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الصديقون ثلاثة ، حبيب النجار مؤمن آل يس الذي قال : { قَالَ يا قوم اتبعوا المرسلين } ، وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ الله } وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه وهو أفضلهم .