روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِي يَـٰٓإِبۡرَٰهِيمُۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَۖ وَٱهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا} (46)

{ قَالَ } استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل فماذا قال أبوه عندما سمع منه عليه السلام هذه النصائح الواجبة القبول فقيل ؟ قال مصراً على عناده مقابلاً الاستعطاف واللطف بالفظاظة والغلظة : { أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلهتي يا إِبْرَاهِيمَ } اختار الزمخشري كون { راغب } خبراً مقدماً { الحق وَأَنتَ } مبتدأ وفيه توجيه الإنكار إلى نفس الرغبة مع ضرب من التعجيب . وذهب أبو البقاء وابن مالك وغيرهما إلى أن { أَنتَ } فاعل الصفة لتقدم الاستفهام وهو مغن عن الخبر وذلك لئلا يلزم الفصل بين { أَرَاغِبٌ } ومعموله وهو { عَنْ آلِهَتِي } بأجنبي هو المبتدأ وأجيب بأن { عَنْ } متعلق بمقدر بعد أنت يدل عليه أراغب .

وقال «صاحب الكشف » : المبتدأ ليس أجنبياً من كل وجه لاسيما والمفصول ظرف والمقدم في نية التأخير والبليغ يلتفت لفت المعنى بعد أن كان لما يرتكبه وجه مساغ في العربية وإن كان مرجوحاً . ولعل سلوك هذا الأسلوب قريب من ترجيح الاستحسان لقوة أثره على القيا ، ولا خفاء أن زيادة الإنكار إنما نشأ من تقديم الخبر كأنه قبل أراغب أنت عنها لا طالب لها راغب فيها منبهاً له على الخطأ في صدوفه ذلك ولو قيل : أترغب لم يكن من هذا الباب في شيء انتهى ، ورجح أبو حيان إعراب أبي البقاء ومن معه بعدم لزوم الفل فيه وبسلامة الكلام عليه عن خلاف الأصل في التقديم والتأخير ، وتوقف البدر الدماميني في جواز ابتدائية المؤخر في مثل هذا التركيب وإن خلا عن فصل أو محذور آخر كما في أطالع الشمس وذلك نحو أقائم زيد للزوم التباس المبتدأ بالفاعل كما في ضرب زيد فإنه لا يجوز فيه ابتدائية زيد . وأجاب الشمني بأن زيداً في الأول يحتمل أمرين كل منهما بخلاف الأصل وذلك إجمال لا لبس بخلافه في الثاني فتأمل { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأرْجُمَنَّكَ } تهديد وتحذير عما كان عليه من العظة والتذكير أي والله لئن لم تنته عما أنت عليه من النهي عن عبادتها والدعوة إلى ما دعوتني إليه لأرجمنك بالحجارة على ما روى عن الحسن ، وقيل : باللسان والمراد لأشتمنك وروى ذلك عن ابن عباس . وعن السدي . والضحاك . وابن جريج ، وقدر بعضهم متعلق النهي الرغبة عن الآلهة أي لئن لم تنته عن الرغبة عن آلهتي لأرجمنك وليس بذاك { واهجرني } عطف على محذوف يدل عليه التهديد أي فاحذرني وارتكني وإليك ذهب الزمخشري .

ولعل الداعي لذلك وعدم اعتبار العطف على المذكور أنه لا يصح أو لا يحسن التخالف بين المتعاطفين إنشائية وإخبارية ، وجواب القسم غير الاستعطافي لا يكون إنشاء وليست الفاء في فاحذرني عاطفة حتى يعود المجذور .

ومن الناس من عطف على الجملة السابقة بناء على تجويز سيبويه العطف مع التخالف في الاخبار والإنشاء والتقدير أوقع في النفس { مَلِيّاً } أي دهراً طويلاً عن الحسن . ومجاهد . وجماعة ، وقال السدي : أبداً وكأنه المراد ، وأصله على ما قيل من الإملاء أي الإمداد وكذا الملاوة بتثليث الميم وهي بمعناه ومن ذلك الملوان الليل والنهار ونصبه على الظرفية كما في قول مهلهل :

فتصدعت صم الجبال لموته *** وبكت عليه المرملات ملياً

وأخرج ابن الأنباري عن ابن عباس أنه فسره بطولاً ولم يذكر الموصوف فقيل هو نصب على المصدرية أي هجراً ملياً ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن المعنى سالماً سوياً والمراد قادراً على الهجر مطيقاً له وهو حينئذ حال من فاعل { اهجرني } أي اهجرني ملياً بالهجران والذهاب عني قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرح ، وكأنه على هذا من تملي بكذا تمتع به ملاوة من الدهر .