روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَنَرِثُهُۥ مَا يَقُولُ وَيَأۡتِينَا فَرۡدٗا} (80)

{ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } أي نسلب ذلك ونأخذه بموته أخذ الوارث ما يرثه ، والمراد بما يقول مسماه ومصداقه وهو ما أوتيه في الدنيا من المال والولد يقول الرجل : أنا أملك كذا فتقول : ولي فوق ما تقول ، والمعنى على المضي وكذا في { يقول } [ مريم : 79 ] السابق ، وفيه إيذان بأنه ليس لما قال مصداق موجود سوى ما ذكر ، وما إما بدل من الضمير بدل اشتمال وإما مفعول به أي نرث منه ما آتيناه في الدنيا { وَيَأْتِينَا } يوم القيامة { فَرْداً } لا يصحبه مال ولا ولد كان له فضلاً أي يؤتى ثمة زائداً ، وفي حرف ابن مسعود { وَنَرِثُهُ مَا عِندَهُ وَيَأْتِينَا فَرْداً لا مَّال لَهُ وَلاَ وَلَداً } وهو ظاهر في المعنى المذكور ، وقيل : المعنى نحرمه ما زعم أنه يناله في الآخرة من المال والولد ونعطيه لغيره من المستحقين ، وروي هذا عن أبي سهل ، وتفسير الإرث بذلك تفسير باللازم و { مَا يَقُولُ } مراد منه مسماه أيضاً والولد الذي يعطى للغير ينبغي أن يكون ولد ذلك الغير الذي كان له في الدنيا وإعطاؤه إياه بأن يجمع بينه وبينه حسبما يشتهيه وهذا مبني على أنه لا توالد في الجنة .

وقد اختلف العلماء في ذلك فقال جمع : منهم مجاهد . وطاوس . وإبراهيم النخعي : بعدم التوالد احتجاجاً بما في حديث لفيط رضي الله تعالى عنه الطويل الذي عليه من الجلالة والمهابة ونور النبوة ما ينادي على صحته ، وقال فيه أبو عبد الله بن منده لا ينكره إلا جاحد أو جاهل ، وقد خرجه جماعة من أئمة السنة من قوله : قلت يا رسول الله أولنا فيها أزواج أو منهن مصلحات ؟ قال صلى الله عليه وسلم : «المصلحات للمصلحين تلذذونهن ويلذذنكم مثل لذاتكم في الدنيا غير أن لا تتوالد » وبما روي عن أبي ذر العقيلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن أهل الجنة لا يكون لهم ولد » وقالت فرقة بالتوالد احتجاجاً بما أخرجه الترمذي في جامعه عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة كما يشتهي » وقال حسن غريب ، وبما أخرجه أبو نعيم عن أبي سعيد أيضاً قيل يا رسول الله أيولد لأهل الجنة فإن الولد من تمام السرور ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : «نعم والذي نفسي بيده وما هو إلا كقدر ما يتمنى أحدكم فيكون حمله ورضاعه وشبابه » وأجابت عما تقدم بأن المراد نفى أن يكون توالد أو ولد على الوجه المعهود في الدنيا .

وتعقب ذلك بأن الحديث الأخير ضعيف كما قال البيهقي .

والحديث الأول قال فيه السفاريني : أجود أسانيده إسناد الترمذي وقد حكم عليه بالغرابة وأنه لا يعرف إلا من حديث أبي الصديق التاجي . وقد اضطرب لفظه فتارة يروى عنه إذا اشتهى الولد وتارة أنه يشتهي الولد وتارة إن الرجل من أهل الجنة ليولد له وإذا قلنا بأن له على الرواية السابقة سنداً حسناً كما أشار إليه الترمذي فلقائل أن يقول : إن فيه تعليقاً بالشرط وجاز أن لا يقع ، وإذا وإن كانت ظاهرة في المحقق لكنها قد تستعمل لمجرد التعليق الأعم . وأما الجواب عن الحديثين السابقين بما مر فأوهن من بيت العنكبوت كما لا يخفى ، وبالجملة المرجح عند الأكثرين عدم التوالد ورجح ذلك السفاريني بعشرة أوجه لكن للبحث في أكثرها مجال والله تعالى أعلم . وقيل : المراد بما يقول نفس القول المذكور لا مسماه ، والمعنى إنما يقول هذا القول ما دام حياً فإذا فبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله ويأتينا رافضاً له مفرد عنه .

وتعقب بأن هذا مبني على صدور القول المذكور عنه بطريق الاعتقاد وأنه مستمر على التفوه به راج لوقوع مضمونه ولا ريب في أن ذلك مستحيل ممن كفر بالبعث وإنما قال ما قال بطريق الاستهزاء .

وأجيب بأنا لا نسلم البناء على ذلك لجواز أن يكون المراد إنما يقول ذلك ويستهزئ ما دام حياً فإذا قبضناه حلنا بينه وبين الاستهزاء بما ينكشف له ويحل به أو يقال : إن مبنى ما ذكر على المجاراة مع اللعين كما تقدم .

قيل : المعنى نحفظ قوله لنضرب به وجهه في الموقف ونعيره به ويأتينا على فقره ومسكنته فرداً من المال والولد لم نوله سؤله ولم نؤته متمناه فيجتمع عليه أمران تبعة قوله ووباله وفقد المطموع فيه ، وإلى تفسير الإرث بالحفظ ذهب النحاس وجعل من ذلك «العلماء وَرَثَةِ الانبياء » أي حفظة ما قالوه ، وأنت خبير بأن حفظ قوله قد علم من قوله تعالى : { سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ } .

وفي «الكشاف » يحتمل أنه قد تمنى وطمع أن يؤتيه الله تعالى مالاً وولداً في الدنيا وبلغت به أشعبيته أن تألى على ذلك فقال سبحانه هب أنا أعطيناه ما اشتهاه أما نرثه منه في العاقبة ويأتينا غداً فرداً بلا مال ولا ولد كقوله تعالى : { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى } [ الأنعام : 94 ] فما يجدي عليه تمنيه وتأليه انتهى ، ولا يخفى أنه احتمال بعيد جداً في نفسه ومن جهة سبب النزول ، والتكلف لتطبيقه عليه لا يقر به كما لا يخفى و { فَرْداً } حال على جميع الأقوال لكن قيل . إنه حال مقدرة حيث أريد حرمانه عن المال والولد وإعطاء ذلك لمستحقه لأن الانفراد عليه يقتضي التفاوت بين الضال والمهتدي وهو إنما يكون بعد الموقف بخلاف ما إذا أريد غير ذلك مما تضمنته الأقوال لعدم اقتضائه التفاوت بينهما وكفاية فردية الموقف في الصحة وإن كانت مشتركة .

وزعم بعضهم أن الحال مقدرة على سائر الأقوال لأن المراد دوام الانفراد عن المال والولد أو عن القول المذكور والدوام غير محقق عند الإتيان بل مقدر كما في قوله تعالى : { ادخلوها خالدين } [ الزمر : 73 ] ولا يخفى ما فيه .