روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{فَٱلۡمُقَسِّمَٰتِ أَمۡرًا} (4)

{ فالمقسمات أَمْراً } هي الملائكة الذين يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به ، وتفسير كل بما به قد صح روايته من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه ، وفي بعض الروايات أن ابن الكواء سأله عن ذلك وهو رضي الله تعالى عنه يخطب على المنبر فأجاب بما ذكر ، وفي بعض الأخبار ما يدل على أنه تفسير مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أخرج البزار . والدارقطني في «الافراد » . وابن مردويه . وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال : «جاء صبيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال : أخبرني عن { والذريات ذَرْواً } قال : هي الرياح ، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته ، قال : فأخبرني عن { فالحاملات وِقْراً } قال : هي السحاب ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته ، قال : فأخبرني عن { الجاريات يُسْراً } قال : هي السفن ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته ، قال : فأخبرني عن { المقسمات أمْراً } قال : هي الملائكة ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته ثم أمر به فضرب مائة وجعل في بيت فلما برأ دعاه فضربه مائة أخرى وحمله على قتل وكتب إلى أبي موسى الأشعري امنع الناس من مجالسته فلم يزالوا كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له بالايمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئاً فكتب إلى عمر رضي الله تعالى عنه ما أخاله إلا قد صدق فخلى بينه وبين مجالسة الناس » .

ويدل هذا أن الرجل لم يكن سليم القلب وأن سؤاله لم يكن طلباً للعلم وإلا لم يصنع به عمر رضي الله تعالى عنه ما صنع .

وفي رواية عن ابن عباس أن الحاملات هي السفن الموقرة بالناس وأمتعتهم ، وقيل : هي الحوامل من جميع الحيوانات ، وقيل : الجاريات السحب تجري وتسير إلى حيث شاء الله عز وجل ، وقيل : هي الكواكب التي تجري في منازلها وكلها لها حركة وإن اختلفت سرعة وبطأ كما بين في موضعه ، وقيل : هي الكواكب السبعة الشهيرة وتسمى السيارة ، وقيل : { الذاريات } النساء الولود فإنهن يذرين الأولاد كأنه شبه تتابع الأولاد بما يتطاير من الرياح ، وباقي المتعاطفات على ما سمعت أولاً ، وقيل : { الذاريات } هي الأسباب التي تذري الخلائق على تشبيه الأسباب المعدة للبروز من العدم بالرياح المفرقة للحبوب ونحوها ، وقيل : الحاملات الرياح الحاملة للسحاب ، وقيل : هي الأسباب الحاملة لمسبباتها مجازاً ، وقيل : الجاريات الرياح تجري في مهابها ، وقيل : المقسمات السحب يقسم الله تعالى بها أرزاق العباد ، وقيل : هي الكواكب السبعة السيارة وقول باطل لا يقول به إلا من زعم أنها مدبرة لعالم الكون والفساد ، وفي «صحيح البخاري » عن قتادة

" خلق الله تعالى هذه النجوم لثلاث جعلها زينة للسماء . ورجوماً للشياطين . وعلامات يهتدي بها فمن تأوّل فيها بغير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا يعلم " وزاد رزين " وما لا علم له به وما عجز عن علمه الأنبياء والملائكة " وعن الربيع مثله وزاذ " والله ما جعل الله تعالى في نجم حياة أحد ولا رزقه ولا موته وإنما يفترون على الله تعالى الكذب ويتعللون بالنجوم " ذكره «صاحب جامع الأصول » ، وقد مر الكلام في إبطال ما قاله المنجمون مفصلاً فتذكر ، ولعله سيأتي إن شاء الله تعالى شيء من ذلك ، وجوز أن يراد بالجميع الرياح فإنها كما تذر وما تذروه تثير السحاب وتحمله ، وتجري في الجوّ جرياً سهلاً وتقسم الأمطار بتصريف السحاب في الأقطار والمعول عليه ما روى عن عمر رضي الله تعالى عنه سامعاً له من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاله باب مدينة العلم كرم الله تعالى وجهه على المنبر وإليه كما نقل عن الزجاج ذهب جميع المفسرين أي المعتبرين ، وقول الإمام بعد نقله له عن الأمير : الأقرب أن تحمل هذه الصفات الأربع على الرياح جسارة عظيمة على ما لا يسلم له ، وجهل منه بما رواه ابن المسيب من الخبر الدال على أن ذلك تفسير النبي صلى الله عليه وسلم فأين منه الإمام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه .

وقول «صاحب الكشف » : إنه شديد الطباق للمقام ولذا آثره الإمام لا أسله له أيضاً إذا صح الحديث ثم إذا حملت هذه الصفات على أمور مختلفة متغايرة بالذات كما في المعول عليه فالفاء للترتيب في الأقسام ذكراً ورتبة باعتبار تفاوت مراتبها في الدلالة على كمال قدرته عز وجل ، وهذا التفاوت إما على الترقي أو التنزل لما في كل منها من الصفات التي تجعلها أعلى من وجه وأدنى من آخر إذا نظر لها ذو نظر صحيح ، وقيل : الترتيب بالنظر إلى الأقرب فالأقرب منا ، وإن حملت على واحد وهو الرياح فهي لترتيب الأفعال والصفات إذ الريح تذر الأبخرة إلى الجو أولاً حتى تنعقد سحاباً فتحمله ثانياً وتجري به ثالثاً ناشرة وسائقة له إلى حيث أمرها الله تعالى ثم تقسم أمطاره ، وقيل : إذا حملت الذاريات والحاملات على النساء ، فالظاهر أنها للتفاوت في الدلالة على كمال القدرة فتدبر .

ونصب { والذريات ذَرْواً } على أنه مفعول مطلق ، { ووقراً } على أنه مفعول به ، وجوز الإمام أن يكون من باب ضربته سوطاً ، و { يُسْراً } على أنه صفة مصدر محذوف بتقدير مضاف أي جرياً ذا يسر ، أو على أنه حال أي ميسرة كما نقل عن سيبويه ، و { أمْراً } على أنه مفعوله به وهو واحد الأمور ، وقد أريد به الجمع ولم يعبر به لأن الفرد أنسب برؤوس الآي مع ظهور الأمر ، وقيل : على أنه حال أي مأمورة ، والمفعول به محذوف أو الوصف منزل منزلة اللازم أي تفعل التقسيم مأمورة ، وقرأ أبو عمرو .

وحمزة { والذريات ذَرْواً } بادغام التاء في الذال ، وقرئ { وِقْراً } بفتح الواو على أنه مصدر وقره إذا حمله كما أفاده كلام الزمخشري وناهيك به إماماً في اللغة ، وعلى هذا هو منصوب على أنه مفعول به أيضاً على تسمية المحمول بالمصدر أو على أنه مفعول مطلق لحاملات من معناها كأنه قيل : فالحاملات حملاً .

ومما قاله بعض أهل الإشارة : { فالمقسمات أَمْراً } [ الذاريات : 4 ] إشارة إلى الملائكة النازلين من حظائر القدس بالبشائر والمعارف على قلوب أهل الاستقامة ، وإن شئت جعلت الكل إشارة إلى أنواع رياح العناية فمنها ما يطير بالقلوب في جو الغيوب ، وقد قال العاشق المجازي :

خذا من صبا نجد أماناً لقلبه *** فقد كاد رياها يطير بلبه

وإياً كما ذاك النسيم فإنه *** متى هب كان الوجد أيسر خطبه

ومنها { فالحاملات وِقْراً } دواء قلوب العاشقين كما قيل :

أيا جبلى نعمان بالله خليا *** نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها

أجد بردها أو تشف مني حرارة *** على كبد لم يبق إلا صميمها

فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت *** على نفس مهموم تجلت همومها

ومنها { الجاريات } من مهاب حضرات القدس إلى أفئدة أهل الانس بسهولة لتنعش قلوبهم ، ومنها { المقسمات } ما جاءت به مما عبق بها من آثار الحضرة الإلهية على نفوس المستعدين حسب استعداداتهم وإن شئت قلت غير ذلك فالباب واسع